نص الخطبة:
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم (ع): [رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللهُ من الصابرين، فلما أسلما وتلَّه للجبين، ونادينه أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا، إنَّا كذلك نجزي المحسنين، إنَّ هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين]. الصافات/ 100 ـ 111
يرتبط عيد الأضحى بقضية استعداد إبراهيم(ع) للتضحية بإبنه اسماعيل(ع) استجابة لأمر الله، فقد طلب ابراهيم بداية من الله أن يرزقه ولداً صالحاً(رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ) حيث كان قد تقدم به السن ولم يكن له ولد، فاستجاب الله لدعائه ورزقه بولد حليم (فبشّرناه بغلام حليم) فانسرّ إبراهيم الذي كان ينتظر لسنوات طويلة ان يرزقه الله بولد صالح ، الا انه عندما وصل ولده الذي سماه اسماعيل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي والعمل وبذل الجهد مع والده في مختلف شؤون الحياة وإعانته على اُموره، أمره الله بذبحه والتضحية به! ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَـبُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) وكان عمر إسماعيل أنذاك ثلاثة عشرسنة، هذا المنام يدلّ على بدء إمتحان عسير آخر لهذا النّبي العظيم يضاف الى بقية الإمتحانات التي مرّ بها، فقد رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح إبنه الوحيد وقطع رأسه، ومن المعلوم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين، وبالتالي فإن المطلوب من إبراهيم تنفيذ الأمر الألهي بحق إبنه الوحيد الشاب اليافع الحليم المميز بصفاته والذي رزق به بعد طول انتظار.
ولكن قبل كلّ شيء، فكّر إبراهيم (ع) في إعداد إبنه لهذا الأمر، فعرض الأمر عليه حيث (قال يابني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك، فانظر ماذا ترى؟).
والولد الذي كان نسخة طبق الأصل عن والده، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان والتسليم والإذعان لأمر الله من والده، أبدى استعداده من دون تردد أو امتعاض وبكل رحابة صدر وطيبة نفس للالتزام بالأمر الإلهي، وبصراحة واضحة قال لوالده: (قال يا أبت افعل ما تؤمر) ولا تفكّر في أمري، فانّك (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) أي افعل ما أنت مأمور به، فإنّني مسلم بأمر الله سبحانه.
فلما سلما بأمر الله وحان وقت التنفيذ وتله للجبين أي أنّه وضع جبين ولده على الأرض، حتّى لا تقع عيناه على وجه إبنه فتهيج عنده عاطفة الاُبوّة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي, أو يحصل لديه تردد بذلك. جاء النداء الألهي(وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين).
ويظهر من خلال هذا السرد ان نبي الله إبراهيم ابدى كامل استعداده لتلبية أمر الله في ذبح ابنه إسماعيل بالرغم من مجموعة أمور صعبة:
أولاً: ان إسماعيل كان ولده الوحيد الذي رزقه الله به في شيخوخته بعد طول انتظار, ومن الطبيعي أن يكون تعلق إبراهيم بإبنه أشد وحبه له أعظم وأكبر.
ثانياً: إن الله أمره بذبحه وهو في ريعان أيامه وفي السن الذي يزداد تعلق الوالدين عادة بولدهما.
ثالثاً: إن هذا الولد إسماعيل الذي أُمر بذبحه هو في أعلى درجات الكمال الإنساني, هو ولد مميز عقلاً وسلوكاً واستقامة.. وهذا ما يزيد من تعلقه به وحبه له.
ورابعاً: إن الله يأمر إبراهيم أن يذبح هذا الولد الذي يمتلك هذه الصفات والخصائص.. بيديه, وهذا أبلغ في الاختبار والمسؤولية.
ومع كل ذلك فإن إبراهيم يلبي ويستجيب لأمر الله من دون أن يسأل عن السبب والغاية والهدف, ومن دون أن يتبرم أو يستنكر أو يمتعض, ومن دون تردد أو تحير في ذلك.
كل ذلك لأنه واثق بأن الله لا يختار له ولا يأمره إلا بما هو حسن, وفيه صلاح له ولإبنه.
في المقابل, فإن إسماعيل لم يتردد أيضاً, ولم يكن منه إلا التسليم لأمر الله والانقياد له بثقة ورضى كاملين, ولكنه لا يعتبر هذا التسليم شجاعة وصبراً وبطولة وإنما يعتبره خضوعاً لإرادة الله ومشيئته.
وطبعاً ذبح إسماعيل وإراقة دمه لم يكن هو المقصود النهائي لله تعالى وإنما كان المقصود هو البلاء والامتحان والاختبار لإبراهيم وولده إسماعيل [إن هذا لهو البلاء المبين].
وحكمة هذا البلاء هو أن يزيد في تزكية وتصفية نفس إبراهيم ونفس إسماعيل في مراحل إعداده لتحمل المسؤولية الكبرى, مسؤولية النبوة وقيادة الأمة.
وما نستفيده من هذه القصة:
أولاً: يجب أن يكون الله سبحانه وتعالى أحبّ إلى الإنسان من كل شيء, أحب إليه من ابنه وولده وأهله وعشيرته وماله وملكه وكل شيء, كما كان أحب إلى إبراهيم وإبنه إسماعيل من كل شيء.
وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة: [قل إن كان آباؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين]. التوبة/ 24.
ثانياً التسليم المطلق لأمر الله والرضا بأمره والاستجابة لإرادته في كل شيء.. لا أن يستجيب لله في شيء وشيء.. يستجيب لله عندما يكون أمر الله منسجماً مع أهوائه وشهواته ومصالحه وآماله وطموحاته, وعندما لا يكون كذلك يتمرد على الله..
المطلوب التسليم في كافة الأمور [ادخلوا في السلم كافة].
الإسلام ليس مجرد انتماء وانتساب أجوف, ولا ادعاء فارغ, ولكنه إيمان راسخ ويقين صادق, علامته الخضوع والانقياد والتسليم لأمر الله ومشيئته وإرادته والرضا بقضائه.
والعيد الكبير هو اليوم الذي يضحي فيه الإنسان بشهواته وأنانيته ويلتزم بواجباته وما افترضه الله عليه بكل رضى وتسليم.
العيد الكبير هو اليوم الذي تعود فيه الأمة الإسلامية إلى قيمها وجذورها الإيمانية الأصيلة فتتوحد وتخرج من عصبياتها المذهبية، وتلتزم مبادئ الرحمة والصفح في التعامل مع بعضها وتسعى نحو عزتها واستعادة كرامتها.
المصدر: موقع قناة المنار