نص الخطبة:
في ذكرى شهادة الامام الصادق (ع) التي تصادف في 25 شوال 148 الموافق 14 ديسمبر 765 م نستحضر كلماته وأحاديثه الشريفة وجهوده المباركة في النهوض الزراعي، وأهمية الاستثمار في الزراعة.
فقد اعتبر الامام الصادق (ع) الزراعة خير الأعمال وأطيبها وأجلها وأحبها الى الله، حيث ورد عنه (عليه السلام) أنه قال: (ما في الأعمال شيء أحب إلى الله تعالى من الزراعة)، وروي ان أحد اصحابه سأله قائلاً له: “جعلت فداك أسمع قومًا يقولون إنّ الزراعة مكروهة، فقال (ع): ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل الناس عملاً أجلّ ولا أطيب منه”.
وورد هذا المعنى ايضا عن ابيه الإمام الباقر (ع) حيث قال: “كان أبي يقول خير الأعمال الحرث يزرعه فيأكل منه البر والفاجر”. فالزراعة خير الأعمال لكونها تساهم في سدّ الحاجات الغذائيّة للناس بغضّ النظر عن دينهم وعن انتمائهم والتزامهم الديني .
ويلفت الامام الصادق(ع) الى ان العمل بالزراعة هو عمل شريف وليس من الاعمال الوضيعة التي يتعيب الانسان من مزاولتها، بل هو عمل الانبياء والاولياء، الذين هم على درجة عالية من العلم والمعرفة والقدرة والخبرة والمكانة الاجتماعية والسياسية والقيادية، وقد كانت الزراعة تشكل مصدر أرزاقهم، ففي رواية عن الامام الصادق (عليه الصلاة والسلام) انه قال في حديث: ما بعث الله نبياً إلاَّ زرّاعاً إلاَّ إدريس، فإنه كان خياطاً.
وفي حديث اخر قال(ع): (إن الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع كي لا يكرهوا شيئاً من قطر السماء).
وفي رواية أُخرى عنه (عليه الصلاة والسلام) يقول: (إن الله عزّ وجلّ اختار لأنبيائه الحرث والزرع كي لا يكرهوا شيئاً من قطر السماء)
وفي رواية مسمع عنه (عليه السلام) قال: (لما أهبط آدم إلى الأرض احتاج إلى الطعام والشراب، فشكا ذلك إلى جبرائيل (عليه السلام) فقال له جبرائيل: يا آدم كن حراثاً).
وفي رواية اخرى عنه(ع): (إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم (عليه السلام) أمره بالحرث والزرع).
ولذلك لا ينبغي ان يأنف الانسان او الشاب من هذا العمل، او يأنف أن يكون من المزارعين،الذين يساهمون في بناء أوطانهم واكتفائها الذاتي.
وقد نوه الامام (ع) بالأشخاص الذين يمتهنون الزراعة وبفضلهم ومكانتهم ومقامهم عند الله سبحانه، حيث ورد عنه (ع): “الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبًا أخرجه الله عزّ وجل وهم يوم القيامة أحسن الناس مقامًا وأقربهم منزلة ويدعون المباركين”.
فالإمام (ع) يعطي الزارعين صفة أنهم كنوز الأنام أي أنهم ثروة مخبوؤة ومدَّخرة للبشرية، وكونهم يدعون بالمباركين إشارة إلى أنّ نتائج عملهم وثماره تستمرّ وتدوم، وقد تبقى إلى ما بعد حياتهم الدنيوية، وهذا معنى البركة الذي هو استمرار الأثر الطيب والمبارك.
وهناك آداب يُلفت الامام الصادق(ع) المزارع إليها: أن يعتمد المزارع على الله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه في ما يقوم به، وان ينتظر الرزق من الله لا من سواه، وقد ورد في تفسير قوله تعالى: (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)، أنهم الزارعون. فالله سبحانه هو الذي يخرج الزرع بإذنه فيعطي لمن يشاء ويحرم من يشاء.
وعن الامام الصادق (ع) قال: إن أمير المؤمنين (ع) كان يخرج ومعه أحمال النوى فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك ؟ فيقول: نخل إن شاء الله فيغرسه فما يغادر منه واحدة.
ومنها: ان يدعو المزارع ببعض الأدعية الواردة عن ائمة أهل البيت(ع) ، مما يستحب للزارع أن يدعو به من باب التسليم بأمر الله، واللجوء اليه وطلب الرزق منه، فعن الإمام الصادق “ع”: إذا أردت أن تزرع زرعا فخذ قبضة من البذر واستقبل القبلة، وقل: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) ثلاث مرات ثم تقول: بل الله الزارع، ثلاث مرات. ثم قل: اللهم اجعله حبا مباركا، وارزقنا فيه السلامة. ثم انثر القبضة التي في يدك في القراح.
وعنه (ع) قال: إذا بذرت فقل: اللهم قد بذرتُ وأنت الزارع، فاجعله حباً متراكماً.
وعنه (ع): إذا غرست غرساً أو نبتاً فاقرأ على كل عود أو حبة: ” سبحان الباعث الوارث “، فإنه لا يكاد يخطي إن شاء الله.
اليوم وفي ظل الضائقة الاقتصادية والمالية في لبنان يجب ان يكون هناك توجه وطني لتعزيز الزراعة واستصلاح الاراضي لتكون صالحة للاستثمار في الزراعة، وينبغي:
اولا: اعداد الدراسات اللازمة لتحديد انواع الزراعات الأكثر ملائمة لطبيعة الارض والتربة والمناخ في لبنان، والاكثر حاجة على مستوى الأمن الغذائي، والأكثر تصريفا في السوق اللبناني والاسواق العربية، لكي يكون التوجه نحو زراعات مدروسة وليست عشوائية، مزروعات تتيح للمزارعين تصريف انتاجهم بشكل ميسور بعيدا عن الكساد والهدر الذي نشاهده احيانا في بعض المنتوجات الزراعية غير الملائمة لحاجة السوق.
وفي هذا المجال قد يكون من المفيد بعد اجراء دراسة متخصصة التركيز على نوع واحد او نوعين من الزراعات التي يمكن ان تنمو بشكل واسع ورئيسي في لبنان، ليتحول لبنان الى مصدر اساسي لها، على غرار ما تشتهر به بعض الدول المصدرة لاصناف من المنتوجات الزراعية حيث ان بعض الدول مشهورة بانواع معينة من المزروعات كالشاي والقهوة والرز والكاكاو وغير ذلك.
ثانيا : توجيه كبار المستثمرين والتجار في لبنان لاستثمار اراضي البور بالزراعة المنتجة وفق الأنواع التي تحددها الدراسات او التي يحتاجها لبنان في المخزون الاستراتيجي لحماية الامن الغذائي في البلد، والاستغناء عن الاستيراد المكلف، والوصول ببعض الاصناف الزراعية الى حدود الاكتفاء الذاتي ما امكن.
ثالثا: تشجيع العائلات والأسر على الزراعة المنزلية وانشاء ما يسمى ب(حاكورة البيت) للاستهلاك العائلي، ودعمها بالبذور والشتول والتوجيه والتدريب، بما يؤدي استغناء الاسرة محدودة الدخل عن شراء الخضار وبعض الحبوب من السوق باسعار مرتفعة.
رابعا: تأمين معدات ووسائل الانتاج الزراعي باسعار تشجيعية، وخدمات الارشاد والتوجيه والتدريب الزراعي، وانشاء تعاونيات التصنيع الغذائي بما يساعد على الاستفادة من المنتجات والمحاصيل الزراعية وحفظها لفترة أطول، والأهم تأمين أسواق التصريف المناسبة بما يسمح بالبيع المباشر ما بين المنتج والمستهلك، وازالة الوسطاء مما يتيح للمزارع ان يتقاضى بدلا عادلا لمنتوجه، كما يتيح للمستهلك ان يدفع بدلا عادلا بعيدا عن جشع الوسطاء.
اليوم واكثر من اي وقت مضى نحن بحاجة الى هذا النوع من الاعمال والمبادرات لمواجهة تداعيات الازمة الاقتصادية والمعيشية والمالية والحصار والعقوبات الامريكية على لبنان، وعلى الدولة والحكومة والوزرات المختصة، وكذلك مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني والجهات المانحة ان تساهم في مساعدة المزارعين وعموم الناس والشباب على النهوض بالزراعة المنتجة في لبنان، لما للزراعة من اهمية في الاقتصاد الوطني والأمن الغذائي وفي التخفيف من تداعيات الازمات المالية والمعيشية والاجتماعية التي يعاني منها اللبنانيون، ولما توفره أيضا من فرص عمل كثيرة تحد من نسبة البطالة المتفشية في البلد.
المصدر: موقع المنار