يشهد لبنان ازمة اقتصادية حادة، تشكل بداية لمرحلة من الانحدار للوضع الاقتصادي والمالي المتسارع نحو الهاوية نتيجةً للسياسات الاقتصادية القائمة على المحاصصة والفساد والاهمال للقطاعات الإنتاجية، وغياب استراتيجيات التخطيط والرقابة والمحاسبة وضعف الإدارة على مدى ثلاثين عاماً. ومن اجل إنقاذ لبنان من أزمته يجري التداول حول تشكيل حكومة تكنوقراط او تكنو سياسية لوضع خطة اقتصادية انقاذية. وبعيدا عن شكل الحكومة فان اي خطة تبقى خطوة ناقصة من دون النظر الى التوظيفات في الادارات العامة وخاصة على مستوى راس الهرم الإداري أي أن يتم اختيار مدراء عامين يتمتعون بكفاءة عالية بعيدا عن المحسوبية والمحاصصة السياسية.
وفي ظل الازمة الراهنة يبقى السؤال: هل يمكن للبنان أن يتغلب على هذه الازمة؟.
بما ان الازمة في مرحلة متقدمة، وليس كما يتصور البعض أن الانهيار قد حصل، لذلك يجب على الحكومة الجديدة ان تتخذ إجراءات سريعة بناء على سياسات تحمل ابعادا اقتصادية ومالية وتنموية. ابرزها:
1 . العمل على تغيير هيكلية الاقتصاد اللبناني من اقتصاد ريعي استهلاكي إلى اقتصاد منتج من خلال وضع خطة تنمية شاملة تربط السياسة المالية- كيفية إدارة الحكومة لنفقاتها وايراداتها- بالسياسة النقدية- كيفية تحديد أسعار الفائدة ولجم التضخم- وبديلة للفكر الاقتصادي الحالي، مع دعم كافّة القطاعات الحيوية والإنتاجية منها الزراعة والصناعة والسياحة والتجارة والاتصالات والطاقة وذلك من خلال دراسة تطوير كل قطاع على حدى، واحياء قيم العمل والتميز والابتكار وبرامج التحسين والتطوير وتوفير بيئة للأعمال من أجل رفع مستوى الانتاج الوطني وتخفيف كلفته وحمايته من المنافسات الخارجية.
2 . خفض وترشيد الإنفاق العام والحد من هدر المال العام على المشاريع غير المجدية مع تشديد الرقابة على الانفاق وبالتوازي إعطاء الأولوية للإنفاق الاستثماري من أجل تعزيز الإنتاجية وتمويل مشاريع فعالة على المدى القصير لتدر دخلا وتخلق فرص عمل سريعة.
3 . إدارة الدين العام : بلغ الدين العام 86.57 مليار دولار خلال الشهر الثامن من العام الحالي – بحسب العديد من الدراسات – فهو على الرغم من كونه عجزاً كبيراً إلا أنّه لا ينبئ بكارثة، بحيث تبلغ نسبة الدين العام حاليا من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي نحو 152٪، لكن هذه النسبة كانت 185% في العام 2002، كما أن نسبة الدين العام بالليرة اللبنانية 63.35 ٪ من اجمالي الدين العام، و92٪ من إجمالي الدين بجميع العملات تسيطر عليه مؤسسات محلية(مصرف لبنان بمقدار 40٪، المصارف المحلية التجارية بمعدل 35٪، والمؤسسات العامة اللبنانية). لذا من السهل التحكم فيه نظرًا إلى ارتباطه الوثيق بجهات محلية وليس بدول وجهات أجنبية خارجية. ويمكن أن تطلب الحكومة من المصارف المحلية فترة سماح على ديونها على غرار ما فعلته عام 2002. وللحكومة الحق في طلب المساعدة من المصارف لتحقيق التوازن في الموازنة العامة من خلال قبول سندات خزينة بصفر فائدة لفترة زمنية كما حدث في عام 2002.
4 . مكافحة الفساد والتصدي له من خلال فتح أبواب المحاسبة والرقابة، وتفعيل دور ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي. يبقى الفساد السياسي من أصعب تحديات المرحلة والعائق الأساسي لانجاز أي تقدم لحل الأزمة، وهنا يجب أن تتضافر جهود الدولة والأحزاب والتيارات والفعاليات لمكافحة الفساد ورفع اليد عن الفاسدين لمحاسبتهم.
5 . استعادة الأموال المنهوبة والمفقودة من خلال قانون الإثراء الغير المشروع أي تحت عنوان من أين لك هذا؟. لذا يجب أن تكون هناك آليات واضحة ونية صادقة، وإزالة كل الخطوط الحمراء عن المتورطين، وإلغاء السرية المصرفية عن كل الذين تعاطوا الشأن العام، ورفع الحصانة عن النواب والوزراء، وبالتالي سيكون القضاء اللبناني أمام امتحان صعب ليثبت نزاهته في استعادة الأموال المنهوبة والمفقودة و هذا يجب ان يتحقق و ان لا يكون حبرا على ورق دون وجود اليات متابعة له من الشعب و ممثليه الصادقين .
6 . مکافحة الهدر المالي العام:
يجب اعطاء أولوية الى وقف منسوب هدر المال العام من خلال إعادة النظر بالعديد من الامور و على سبيل المثال ما تم طرحه مؤخرا :
أ . الرواتب النجومية، حيث أنه 65 في المائة من إيرادات الدولة تذهب لرواتب موظفي القطاع العام تقدر ب 8 مليارات دولار للرواتب والأجور.
ب . كلفة الايجارات التي تقدر بحوالی 150 مليون دولار سنويا كبدل إيجار لابنية تشغلها الوزارات والإدارت والجامعات وتعود معظمها لنافذين سياسيين، في حين أن ايجار 3 سنوات تكفي لتشييد مباني تفي بالغرض علما أن الدولة تملك عقارات في بيروت نحو 225 عقار.
ج . التهرب الضريبي الذي يقدر ب 4 مليار دولار سنويا.
د . الجمعيات والمجالس التي أنشئت لأهل السلطة، إضافة إلى صندوق المهجرين ومصلحة السكك الحديدية، وإدارة البريد والنقل. هذا يتطلب إرادة سياسية لاقفالها لأنها تكلف الدولة حوالى ألفي مليار ليرة سنويا.
هـ . استعادة الأملاك البحرية والنهرية التي تقدر ب 65 مليار دولار وإخضاعها للضريبة على الاملاك المبنية.
بالإضافة إلى ما تم ذكره يمكن الإشارة إلى بعض السياسات الأخرى التي تساعد على الخروج من الأزمة:
– إصلاح النظام النقدي من خلال وضع هندسات مالية حقيقية وليس بدع هندسية كالتي ساهمت في نمو أرباح المصارف. وتفعيل دور الرقابة المصرفية وفصلها عن مصرف لبنان واستقلاليتها ماليا وإداريا.
– إعادة النظر بهيكلية معدلات الفائدة بين الودائع بالعملة الوطنية والدولار.
– إعادة النظر بزيادة أسعار الفائدة القائمة حاليا، التي شجعت معظم الناس علی تجميد أموالهم في البنوك. فانخفض الاستهلاك، وتراجعت الاستثمارات وارتفعت تلقائيا أسعار الفائدة على القروض، مما رفع كلفة الاستدانة والاستثمار، ووصلت حديثاً الفوائد الدائنة على قروض الأموال للشركات الى أكثر من 15٪، فمَن الذي سوف يقترض ويستثمر في هذه الظروف؟. بالمقابل يتوجب على المصرف المركزي أن يعود إلى دعم اسعار الفائدة لخفض كلفة التمويل.
– تطوير البنى التحتية لانها تلعب دورا اسياسيا في التشجيع على الاستثمار.
– استعادة الثقة بالدولة لأنّ لها دورا أساسيا في استقطاب التحويلات وعودة الرساميل. وتعتبر عاملا أساسيا لجذب الاستثمارات الأجنبية التي تساهم في علاج أزمة المديونية الخارجية من خلال آلية تحويل الديون إلى استثمارات.
– العمل على هيكلية تسعير السلع الاستهلاكية بالليرة اللبنانية، بناء على قانون النقد والتسليف الرقم 13513/1963 لا سيما المادة الأولى التي نصت على أن الوحدة النقدية للجمهورية اللبنانية هي الليرة اللبنانية. والمادة 192 منه، وبناء على قانون حماية المستهلك رقم 659/2005 لاسيما المادة 5 التي أوجبت الاعلان عن الثمن بالليرة اللبنانية بشكل ظاهر إما على السلعة وإما على الرف المعروضة عليه.
– ترشيد سياسة الإقتراض بشكل عام والارتكاز على الإقتراض بالليرة اللبنانية وليس بالعملات الأجنبية٠
-اصدار القوانين والإصلاحات، وتشديد دور الرقابة المالية والمحاسبة، وترسيخ مبدأ الثواب والعقاب.
-اطلاق المشاريع الاستثمارية المقررة في مجلس النواب والبالغة قيمتها 2،6 مليار دولار.
– الإسراع في عملية التنقيب عن النفط. لبنان امام فرصة جدية جديدة ليتحوّل إلى بلد يُصدر النفط بدل أن يشتريه، وهذا عامل جديد لازدهار الاقتصاد اللبناني.
تحرير استيراد شراء النفط من احتكارات الشركات الخاصة، على أن يتم شراء النفط حصرا من قبل الدولة اللبنانية دون الشرکات الخاصة، مما يوفر على الخزينة 220 مليون دولار سنويا و 20 ٪ على المواطن.
– حل مشكلة كهرباء لبنان من خلال بناء معامل إنتاج إضافية (1666 ميغاوات) قادرة على تغطية حاجة السوق في أسرع وقت ممکن، لأنها كبدت الدولة اعباء مالية كبيرة حيث بلغ إجمالي عجز الکهرباء المتراكم 36 مليار دولار خلال 26 عام، لو تم حل مشكلة الكهرباء في أوساط التسعينيات لخفضنا قيمة الدين العام ٤٣ مليار دولار مع نهاية عام ٢٠١٧، ووفرنا کلفة على المواطنين تتجاوز 17 مليار دولار. إن حل مشکلة كهرباء لبنان يجب أن يكون أمرا حاسما لأنها رافد أساسي في تقليص نفقاتها.
اخيرا. بعد توصيف الازمة، يقف لبنان اليوم أمام مفترق مصيري لذلك تتوجب هذ المرحلة أعلان طوارئ خطة اقتصادية، هذه الحلول التي تم ذكرها بالإضافة إلى حلول أخرى يمكن للبنان أن يتخطى هذه الازمة، ولكن لا بد من تضافر جهود جميع الأفرقاء في لبنان بدلاً من ممارسة السياسات السابقة في استجداء الخارج.
*الدكتور علي النمر – دكتوراه في الادارة المالية .
المصدر: موقع المنار