لفت سماحة الشيخ علي دعموش في خطبة الجمعة الى أن الإسلام لم يحرم الطيبات, والاستفادة من النعم, وإنما حرم الاعتداء والطغيان والإسراف والتبذير في الاستمتاع بها، فالله سبحانه وتعالى أنعم علينا نعماً عظيمة كثيرة، وتفضل علينا بخيرات وفيرة، وعلينا أن نشكر الله تعالى على ذلك حق الشكر، وشكر الله حق الشكر يكون بالمحافظة على تلك النعم والاستفادة منها باعتدال وعدم استخدامها بِشكل فيه إسراف أو تبذير، لأن الله جل شأنه سيسألنا عن هذه النعم «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم.
ورأى أن الهدر والفساد بات ينخر الدولة والمؤسسات, وفي كل الملفات تجد هناك من يسرق ويمارس الهدر ويتصرف خلاف القوانين وخلاف مصلحة الدولة ومصلحة الناس مؤكداً ضرورة وقف حالة الاستهتار بقضايا الناس ومصالحهم, وتوفير الحاجات والخدمات الملحة للمواطنين من كهرباء ومياه وغيرها، ومعالجة تفشي الفساد في معظم المرافق والقطاعات، وملاحقة المفسدين ومعاقبة المتورطين بالملفات الفضائحية كملف الانترنت غير الشرعي والاتصالات غير الشرعية والاتجار بالبشر وتلويث مجرى نهر الليطاني وبحيرة القرعون.
نص الخطبة
في الحادي عشر من شهر ذي القعدة نلتقي بذكرى ولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) وهو الإمام علي بن موسى الرضا(ع), الذي ولد في سنة 148في المدينة المنورة, وتولى الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام موسى الكاظم في سنة 183, وقد عاصر خلال فترة إمامته المباركة التي استمرت عشرين سنة عدداً من خلفاء بني العباس وهم هارون الرشيد لمدة عشر سنوات, ومن بعده ولديه الأمين والمأمون، وقد سلمه المأمون ولاية العهد فقبلها الإمام مرغماً وبعد ضغوط كبيرة مارستها السلطة عليه, وقد أراد المأمون من ذلك كسب شرعية له ولحكمه, نظراً للمكانة التي كان يحتلها الإمام في المجتمع الإسلامي آنذاك.
فقد كان المجتمع ينظر الى الإمام الرّضا(ع) نظرة إجلال وتعظيم واحترام وتقدير، لما كان يمتلكه في شخصيته من علم ومعرفة وأخلاق ومحبة للناس حتى الذين يختلفون معه, وكان العلماء يقرون له بالعلم والفضل, فعن أبي الصّلت عبد السّلام بن صالح الهروي، قال: “ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرّضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع له المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشّريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقرَّ له بالفضل.” .
ولا أريد هنا أن استغرق في الحديث هنا عن مكانة الامام وأخلاقه وسيرته والأسباب التي دفعته للقبول بولاية العهد, ولكن أريد أن أتحدث عن رؤيته في موضوع نقع فيه ويقع فيه أبناء مجتمعنا وهو الاسراف والتبذير,وهو في الاساس موضوع حذر منه القرآن والاسلام واعتبراه من المحرمات, حيث إن حرمة الاسراف والتبذير في الشريعة الاسلامية تعتبر من الواضحات.
فقد حذرالامام الرضا(ع) من الإسراف والتبذير إلى درجة أنه نهى عن الإسراف حتى في بقايا حبة فاكهة كان يمكن أكلها وعدم رميها, فقد نقل شخص يسمّى (ياسر الخادم) قصة حدثت في بيت الامام(ع) قال: أكل الغلمان يوماً فاكهةً لم يستقصوا أكلها (يعني أكلوا نصفها وتركوا نصفها) ورموا بها، فقال لهم أبو الحسن(ع): ـ وهذه كنية الإمام الرضا(ع)ـ “سبحان الله، إن كنتم استغنيتم، فإنَّ أناساً لم يستغنوا، أطعموه من يحتاج إليه.
فالإمام يؤنب غلامانه على رميهم بقايا الفاكهة ويقول لهم: إن كنتم لا تحتاجون هذه البقايا والفضلات, فإنّ هناك من يحتاجها , فأطعموها من يحتاج إليها من الفقراء والمساكين والجائعين (فما متع غني إلا بما جاع به فقير) على حد تعبير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).
والاسراف الذي ينهى عنه الإمام ويحذر منه الاسلام والقرآن هو : صرف المال واستهلاكه وإنفاقه زيادة على ما ينبغي وزيادة على مقدار الحاجة ، بينما التبذير هو: اتلاف المال وصرفه في غير موضعه وفي غير محله ولو كان قليلا.
الإسلام لا يريد للأموال والإمكانات والطاقات والموارد والثروات التي يملكها الإنسان أو التي يسيطر عليها أن تذهب هدراً, وإنما يريد أن يستفيد منها ويتصرف بها باعتدال وتوازن بعيداً عن الهدر والإسراف والتبذير.
ولذلك نجد أن النبي(ص) حذر من الإسراف حتى في ماء الوضوء حتّى لو كان على نهرٍ جارٍ, فقد ورد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ بسعد وهو يتوضّأ، فقال (ص): ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ فقال (ص): “نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ”.
كما اننا نجد أنّ أحد الأئمّة(ع) رأى شخصاً يسرف في الوضوء وهو على النّهر، فقال له: لا تسرف في الوضوء، مع أنّ الوضوء على النّهر لا يغيّر شيئاً ولا يبدِّد الطّاقة المائيّة، لكن إذا اعتاد أن يتوضّأ بأكثر من الكميّة التي يحتاجها في الوضوء، فإنه سيعتاد على يش الإسراف في الماء في الأشياء الأخرى، والإنسان عندما يستهين بالطّاقة في موارد تواجدها الكبير، فإنّه يستهين بها في موارد قلّتها.
وللإسراف مظاهر متعددة في مجتمعنا, فمن مظاهره البارزة:
1- الإسراف في الطعام والشراب؛ سواء الإفراط في الأكل والشرب الى حد التخمة وهذا له مضاعفات صحية كثيرة أو الإسراف في صنع الطعام ورميه في الزبالة لأن كميته كانت كبيرة فوق الحاجة, كما يحصل الآن في بعض البيوت عندما تطبخ المرأة أكثر من ما تحتاجه الأسرة أو كالذي يحصل في العزائم والموائد أو في المطاعم حيث توضع على الموائد ألوان الطعام وصنوف الشراب ما يكفي عدداً كبيراً من الناس بينما لا يستهلك منه إلا القليل ثم يلقى ببقيته في الفضلات والنفايات.
ومن هذا النوع الإسراف والهدر الذي يحصل في الإفطارات الرمضانية وفي الأعراس وفي المناسبات المختلفة حيث تفرش الموائد من أصناف الطعام بما يفوق الحاجة.
يقول تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)
وفي الحديث عن النبي (ص): «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة. فحتى الصدقة لا ينبغي الإسراف فيها وإنما الإنفاق باعتدال.
ويقول الإمام جعفر الصَّادق(ع) وهو يحدِّث عن السّرف والاقتصاد: إنَّ القصد أمر يحبّه الله عزَّ وجلَّ، وإنّ السّرف أمر يبغضه الله عزّ وجلّ، حتّى طرحك النَّواة، فإنَّها تصلح لشيء، وحتى صبّك فضل شرابك “فرمي النواة والبذور كبزور التمر أو الزيتون أو القطين أو غير ذلك مما يمكن الإنتفاع به إذا تراكم .. وكذلك شرب نصف كأس الماء ورمي النّصف الآخر , يعتبره الإمام(ع) من الإسراف، حتى لو كنت مستغنياً عن تلك البذور وعن ذلك الماء، إذ لا ينبغي أن تفكّر في حاجاتك من خلال غناك، ولكن فكِّر في أنّك تهدر شيئاً قابلاً للإنتفاع به من دون أن تنتفع بها أنت أو ينتفع بها غيرك، فإذا كنت لست بحاجة إلى نصف هذه الكأس من الماء، فإنّ هناك أناساً بحاجة إليها ليشربوها, وإن لا تستفيد من لب التمور وغيرها فإن هناك من يستفيد منها.
ولعلّ أكثر ما يُرمَى في المزابل، يمكن له لو وُفِّرَ في البيوت، أن يحلّ مشكلة كثير من الفقراء، إذا أُحسن توزيعه وأُحسن استغلاله بما ينفع النّاس ويحفظ كرامتهم.
2- الإسراف في صرف الماء والكهرباء, فاذا أراد البعض أن يتنظف أو ينظف شيئاً من أوانيه وأشيائه يفتح الماء على وسعها في الوقت الذي يمكنه أن يحصل على ما يريد بأقل من ذلك, وهذا إسراف في الماء, وهكذا في الكهرباء عندما تكون الأسرة جالسة في غرفة وبقية الغرف مضاءة أو المكيفات تعمل من دون حاجة, لذلك لا بد من الإقتصاد والإعتدال والتوازن في استهلاك المياه والكهرباء, ولو أنّنا التزمنا في مجتمعاتنا في صرف الماء او الكهرباء بمقدار الحاجة وبشكل متوازن، لاستطعنا أن نوفر الكثير من طاقة الماء والكهرباء، هذه الطاقة الّتي أصبحت اليوم مشكلتنا الأساسية على المستوى الحياتي والمعيشي في لبنان..
3- الإسراف في عدد السيارات وفي الملابس والمساكن والبيوت والأثاث ، فنجد البعض يحمل نفسه الديون الكبيرة، ليحصل سيارة موديل السنة, أو ليحصل على الثوب الغالي من الماركة الفلانية, أو على المسكن الفاخر أو على الأثاث الفاخر, والبعض يفعل ذلك من أجل التفاخر والتباهي والتنافس مع الآخرين من الأقرباء أو المعارف والأصدقاء أو الجيران , حيث نجد البعض يتباها بأن بيته أفخر أو أوسع من بيوت الآخرين, أو بأن أثاث بيته أفخم من أثاث بيت جيرانه, أو أن سيارته أحدث من سيارة فلان أو فلان وهكذا..
يقال:إان بعض أكابر البصرة، بنى قصراً وكان في جواره بيت صغير لعجوز يساوي عشرين ديناراً، وكان محتاجاً إليه لتوسيع قصهر, فبذل لها مائتي دينار فلم تبعه. فقيل لها: إن القاضي يحجر عليك لسفهك لأنك ضيعت مائتي دينار لما يساوي عشرين دينار، فقالت: ولم لا يحجر على من يشتري بمائتين ما يساوي عشرين؟ فأفحمت القاضي ومن معه وتُرك البيت في يدها.
اذن البعض يدفع مبالغ كبيرة على البيوت والقصور وهذا عندما يخرج عن شأنية الإنسان العرفية يكون إسرافاً.
كذلك التسابق في مجال الأزياء والملابس الحديثة ولا سيما عند النساء؛ حيث يفرغ بعض النساء أنفسهن لمتابعة الموضة الجديدة من ملابس وإكسسوارات وأدوات التجميل وغيرها ويصرفون على ذلك أموالاً طائلة, وكذلك التكلف على حفلات الأعراس بأشياء تفوق اللازم والمطلوب كما لو ضاعف وضع أكليل الورود وتكلف عليا بما يوفوق حاجة العرس أو مظاهر الفرح والبهجة.
ويدخل في هذا المجال أيضاً سعى الكثير من الناس لتملك أكثر من هاتف جوال، من أغلى وأحدث الماركات، وتخصيص الأطفال بأرقام وهواتف وهم دون السن الذي يحتاجون فيه الى هاتف.
هذه بعض مظاهر وصور الاسراف في مجتمعنا.
والإسلام عندما ينهى عن مثل هذه المظاهر ويحذَّر من الإسراف والتبذير فهو لا يريد أن يُحرم زينةَ الحياة الدنيا, والطيبات من الرزقِ, أو يمنع إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه أو أنّه يمنع الإنسان من إظهار ما أنعم الله عليه, أو يمنع من إكرام الضيوف والمعزومين إطلاقاً وإنما يريد الإستفادة من الطاقات والموارد والأموال باعتدال ووسطية, يقول تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( ..
فالاسلام لم يحرم الطيبات, والاستفادة من النعم, وإنما حرم الاعتداء والطغيان والإسراف والتبذير في الاستمتاع بها، فالله سبحانه وتعالى أنعم علينا نعماً عظيمة كثيرة، وتفضل علينا بخيرات وفيرة، وعلينا أن نشكر الله تعالى على ذلك حق الشكر، وشكر الله حق الشكر يكون بالمحافظة على تلك النعم والاستفادة منها باعتدال وعدم استخدامها بِشكل فيه إسراف أو تبذير، لأن الله جل شأنه سيسألنا عن هذه النعم «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم.
فالمطلوب أن يعتدل الإنسان ويقتصد في عمليّة الإنفاق عموماً وخصوصاً في ما يتعلّق بأموال بيت المسلمين (وأموال العمل الإسلامي..) كما لو أراد الإنسان من موقعه ومسؤوليته أن يكرّم العاملين لديه، فليس له أن يبذخ ويعطي ويقدّم الهدايا والعطايا بلا حدود. فإنّ أهم ما يجري فيه الإسراف والزيادة هو النفقة بألوانها وأشكالها المختلفة، فكم من شخص لا يُسرف في شرائِهِ الشخصي للأشياء والمُتع، غير أنّه يُسرفُ ويُفرِطُ عندما يُنفِقُ من المال العام او من مال العمل.
اليوم المطلوب التصرف باعتدال وحكمة وامانة في الطاقات والثروات والموارد والاموال العامة والامتناع عن الهدر والسرقة والتصرف بالثروات وكأنها ملك خاص او على قاعدة من يستفيد اكثر كما يحصل اليوم بملف النفط وغيره من الملفات.
الهدر والفساد بات ينخر الدولة والمؤسسات, وفي كل الملفات تجد هناك من يسرق ويمارس الهدر ويتصرف خلاف القوانين وخلاف مصلحة الدولة ومصلحة الناس.
يجب وقف حالة الاستهتار بقضايا الناس ومصالحهم وتوفير الحاجات والخدمات الملحة للمواطنين من كهرباء ومياه وغيرها، ومعالجة تفشي الفساد في معظم المرافق والقطاعات، و ملاحقة المفسدين ومعاقبة المتورطين بالملفات الفضائحية كملف الانترنت غير الشرعي والاتصالات غير الشرعية والاتجار بالبشر وتلويث مجرى نهر الليطاني وبحيرة القرعون.
ويجب تعزيز صمود الناس وثباتهم في أرضهم لان ذلك هو الذي يجعلهم قادرين على مواجهة التحديات كما واجهوها الى جانب المقاومة والجيش في عدوان تموز وخرجوا منتصرين في 14 آب 2006
إن معادلة الشعب والجيش والمقاومة هي التي صنعت الانتصار في تموز 2006 وهي المعادلة الوطنية الراسخة التي نراهن عليها لحماية لبنان وحماية السيادة الوطنية وتحقيق المزيد من الانتصارات ضد الصهاينة المحتلين وداعميهم.
واليوم تكامل الجهود بين الشعب والجيش والمقاومة كفيل بدفع الاخطار عن البلد وحماية الاستقرار الأمني فيه خصوصا في هذه المرحلة التي تشهد فيها المنطقة الكثير من الاهتزازات والتفجيرات الارهابية على أيدي التكفيريين الذين امتد خطرهم ليطال شعوب ودول المنطقة كلها والعالم.
المصدر: موقع المنار