نص الخطبة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
على أبواب شهر رمضان لا بد للانسان من ان يتهيأ لاستقباله لأنه الشهر الذي جعله الله فرصة للناس ليعودوا اليه ويتقربوا منه ويتوجهوا اليه ويعبروا فيه عن عبوديتهم لله سبحانه من هنا نفهم الروايات الكثيرة التي توجه الانسان المسلم بأن عليه أن يستعد ويتهيأ نفسياً وعملياً لاستقبال هذا الشهر الكريم. لكن لا على النحو الذي يستعد له بعض الناس، حيث ان بعض الناس ينتظرون شهر رمضان كفرصة لاختيار الوان الطعام وللسهر على اللهو ومشاهدة المسلسلات الرمضانية في الوقت الذي اراده الله فرصة للارتقاء الروحي والمعنوي وان على الانسان ان يستقبله بالطاعات والأعمال الصالحات لا باللهو واللعب والفراغ .
فقد روى عبد السلام بن صالح الهروي قال دخلت على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) في آخر جمعة من شعبان فقال لي يا أبا الصلت: إن شعبان قد مضى أكثره وهذا آخر جمعة منه فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقدًا على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنبا أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه، واتق الله وتوكل عليه في سر أمرك وعلانيتك .
كما ورد عن رسول الله (ص) خطبته الشهيرة في المسلمين قبيل شهر رمضان والذي جاء فيها (أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفساكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب.
هذه النصوص وغيرها تؤكد على عدة امور لا بد من القيام بها في اطار الاستعداد والتهيؤ للشهر الكريم وأهمها:
أولاً: التوبة والعودة الى الله، التوبة من الذنوب والمعاصي والعزم والتصميم على عدم العودة اليها، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
هناك الكثير من المشاكل التي يواجهها الانسان في حياته من انسداد الأفق في وجهه وتعثر اعماله او سوءعلاقاته بمن حوله من أقارب وأصحاب وجيران وزملاء او ما يشعر به احيانا من عدم وجود بركة او توفيق في حياته أو في ماله أو في وقته أو في تدبير معيشته او ما يصيبه من مصائب وكوارث، وأمراض وازمات وابتلاءات ان كل ذلك انما هو بسبب الذنوب ومن آثار الذنوب والمعاصي. فالمعاصي تسبب الضيق والازمات لمرتكبها تزيل النعم وتجلب النقم وتسود الوجه وتظلم القلب وتنقص الرزق فيعظم همّ العاصي، ويزداد حزنه وتتضاعف مصائبه، ويتمنى أن يموت فراراً من عذاب الدنيا وعنائها، فكيف بعذاب الآخرة، لذلك التوبة ضرورة لتلافي نتائج الذنوب في الدنيا قبل الآخرة، وقد حثت الروايات الإنسان المسلم على استقبال شهر رمضان بإعلان التوبة حتى يدخل الانسان إلى الشهر الفضيل وهو نقي من الذنوب والآثام، وقد ورد في الرواية: (وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل).
ثانياً: أداء حقوق الناس، بأن يؤدي الانسان الحقوق المادية المتوجبة عليه للناس قبل حلول شهر رمضان، فإذا كان للناس عليك حقوق مالية فبادر لدفعها وتبرئة الذمة منها، والإنسان القادر على أن يعطي الآخرين حقوقهم ولا يبادر لفعل ذلك هو انسان مأزوم ومماطل، وكذلك الحال بالنسبة للحقوق الشرعية، فهي لله تعالى من جهة وللناس من جهة أخرى(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). إن على الإنسان أن يصفي هذه الحقوق لأنه مقبل على الصيام فليكن افطاره على طعام ورزق حلال. وقد ورد عن رسول الله (ص): (كلوا الحلال يتم لكم صومكم) ، لان من يحمل على عاتقه حقوق وأمانات الآخرين فيأتيه شهر رمضان فلا يصفي هذه الحقوق التي عليه، فيخشى أن يكون ماله مشبوها في كثير من الحالات. وورد عن النبي الأكرم (ص) حديث آخر جاء فيه: (العبادة مع أكل الحرام كالبناء على الرمل) ، مكما ان البناء على الرمل لا يثبت بل سرعان ما ينهدم على رؤوس ساكنيه كذلك ثواب العبادة التي يتبعها أكل الحرام فهو معرض للتلاشي والانتهاء.
ثالثاً: تطهير القلوب من الأحقاد والضغينة وانهاء القطيعة مع ارحامه او اصدقائه او جيرانه او زملائه، فلا بد للمؤمن من أن يستقبل شهر رمضان المبارك بالصوم والدعاء والمناجاة والعبادة بقلب نقي طاهر، أما إذا كان قلب الانسان أسوداً يحمل الحقد على هذا وذاك، فإن هذا القلب لن يجلب النظرة الإلهية ، فالله تعالى لا ينظر إلى ذوي القلوب السوداء المليئة بالحقد. ولذلك على الانسان أن يصفي نفسه من الأحقاد في هذا الشهر الفضيل.
وقد ورد عن الإمام الرضا (ع) انه قال: (في أول ليلة يغل المردة من الشياطين ويغفر الله في كل ليلة لسبعين ألف فإذا كان في ليلة القدر غفر الله لمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم، إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عز وجل أنظروا هؤلاء حتى يصطلحوا) فلماذا يحرم الإنسان نفسه من مغفرة الله ورحمته لمجرد عناد يمنعه عن حل مشكلة مع أخيه.
رابعاً: ينبغي للانسان المؤمن أن يضع لنفسه برنامجاً عبادياً خلال الشهر الكريم. فلا ينبغي أن يكون يوم صومك كيوم فطرك، لا يصح ان تكون ايام شهر رمضان كسائر ايام السنة بل لا بد من ان تتميز عنها باعمالها العبادية والروحية والاجتماعية وان لا يضيع هذه الاوقات الثمينة وايام الرحمة والمغفرة باللهو والفراغ بل لا بد أن يضع برنامجا لقراءة القرآن الكريم بشكل يومي، فيقرأ يوميا ولو على دفعات جزءا من القران بحيث يصل الى ختم القران كله مع نهاية الشهر، ويضع برنامجا لقراءة الدعاء بشكل يومي ايضا، لا سيما دعاء الافتتاح وادعية السحر ودعاء ابي حمزة ودعاء مكارم الاخلاق، فهذه ادعية عظيمة لا تعمق ارتباط الانسان بالله فقط بل تربيه على القيم والاخلاق والحق والعدل وصنع الخير وتحمل المسؤوليات، ويضع برنامجا للعبادة وصلاة النوافل، وبرنامجا اجتماعيا لصلة الرحم ومساعدة الفقراء وقضاء حوائج المؤمنين، وبرنامجا لطلب العلم والمعرفة بان يطالع بعض الكتب المفيدة ويستمع الى المحاضرات والمواعظ في المساجد فان البعض يضيع ساعات على تصفح الواتس والفايس بوك والأنترنت والبعض يضيع جزءا كبيرا من وقته على بعض الألعاب المنتشرة اليوم ولكنه ليس مستعدا ان يخصص جزءا من وقته لمطالعة الكتب المفيدة، لذلك لا بد للانسان المؤمن في شهر رمضان من ان يتوجه الى الاشياء المفيدة، ويشارك في احياء الليالي الرمضانية المقررة في المساجد لا سيما المشاركة في الإحياءات الليلية، حيث تم تنظيم برنامج عبادي وروحي ومعرفي في مختلف المجمعات الدينية والمساجد وفي كل المناطق ليليا من التاسعة والنصف والى العاشرة والنصف، يتضمن تلاوة للقرآن وموعظة وقراءة دعاء الافتتاح ويختتم بدعاء الحجة وزيارة مختصرة.
ونحن نأمل من كل اخواننا واخواتنا والشباب والشابات وجيران المساجد المشاركة الكثيفة في هذا البرنامج للاستفادة من عطاءات وبركات وخيرات هذا الشهر، وفي هذا المجمع مجمع السيدة زينب(ع) سنطبق هذا البرنامج الليلي اضافة الى البرنامج النهاري يوميا، وستُنقل مراسم الاحياء الليلي من هذا المجمع عبر قناتي المنار والصراط، وسيشارك عدد من العلماء في القاء المحاضرات والمواعظ طيلة ليالي الشهر المبارك.
في الشأن الداخلي لا تزال الحكومة اللبنانية تناقش الموازنة، والنقاشات المستمرة داخل مجلس الوزراء للموازنة تؤشر على جدية الحكومة والقوى السياسية إنجاز الموازنة بأسرع وقت ممكن، ، ونحن نشارك في النقاشات الجارية بكل مسؤولية وطنية، ومن موقع الحريص على مصالح الدولة ومصالح الناس.
وننطلق في نقاشاتنا من مبادىء ومعايير حددناها مسبقا وهي اولا: بناء اقتصاد متين والحرص على عدم انهيار البلد اقتصاديا وماليا، ثانيا: عدم المس بالفئات الفقيرة من ذوي الدخل المحدود، ثالثا: سد أبواب الهدر، ووضع حد للفساد، رابعا: تحسين موارد الدولة وجباية أموالها ممن يتهرب من تأديتها.
ولذلك لا بد من اتباع إجراءات وسياسات مالية تؤدي الى تخفيض النفقات والعجز من دون أن نحمِّل الناس أعباءا ضريبية جديدة او نضر بحقوق ذوي الدخل المحدود، والعمل في نفس الوقت على تحصيل أموال الدولة المنهوبة، فلا يكفي ان تتخذ الحكومة اجراءات لتخفيض النفقات فقط، بل يجب أن تكون هناك اجراءات واضحة وملموسة لتحسين الموارد التي تُدخل أموالا على الدولة، كما لا بد من تحصيل حقوق الدولة المهدورة وملاحقة كل من يتهرّب من دفع مستحقاتها، وضبط كل اشكال التعديات على حقوق الدولة واملاكها والاملاك العامة، وهذه مسؤولية الحكومة .
المصدر: موقع المنار