“حدوث إنقلابٍ جديد أمرٌ مُحتمل، لدينا قُصُور في عمل الإستخبارات، والجيش بحاجة إلى إعادة هيكلة”، هذا ما صرَّح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لوكالة “رويترز” منذ ساعات.
ما يحصل في الداخل التركي يفوق الوصف، وردود فعل إنفعالية تحكُم أداء الرئيس أردوغان وحكومته، مما أشاع الذعر وانعكس على مختلف الشرائح الشعبية والقطاعات الرسمية والخاصة، وأرقام المُعتقلين والمعزولين تتصاعد كما البورصة المجنونة التي تتحكَّم بها الوقائع من ناحية، والإشاعات من ناحية أخرى، وسط تضارب المعلومات وتقاطُعها أحياناً عن أن ما حدث يتعدَّى بفظاعته وتداعياته الإنقلابات الأربعة التي عرفتها تركيا منذ العام 1960.
وكالة “رويترز” قدَّمت حصيلة غير نهائية تشير، إلى أن السلطات التركية اعتقلت وأقالت حوالي 50 ألف شخصٍ من الجيش والشرطة والموظفين الحكوميين والمدرّسين والقضاة ورجال الدين، إلى جانب القائد العام للدرك الذي كان يُعتقد أنه من المقربين من الرئيس التركي، ومستشار أردوغان العسكري الجنرال “أركان كريفاك”، والأخطر من ذلك، أن صحيفة “الاندبندنت” البريطانية ذكرت أن قوات “الجيش الثاني” التي تقاتل التمرد في جنوب شرق البلاد، تلقت أوامراً بالبقاء في معسكراتها، في الوقت الذي جرى اعتقال قائدها، وأن القاعدة العسكرية للفيلق الثالث في اسطنبول، وهي قوة مرتبطة بقوة التدخل السريع التابعة لحلف “الناتو”، مطوّقة على المداخل بشاحنات وعربات نفايات تابعة لبلدية المدينة، وتبدو المشهدية “وكأنهم يخشون محاولة انقلابٍ ثانية” كما يقول الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في اسطنبول “أصلي إيدينتسباس”.
وتتوالى الأرقام المُخيفة عن المعتقلين والمُقالين من وظائفهم والممنوعين من المُغادرة، من الجيش والأمن والاستخبارات والقضاء والمصارف والإعلام والتعليم والمؤسسة الدينية والطاقة، ووصلت الأمور الى حظر سفر الطلاب.
عشرون بالمئة من الجنرالات والضباط يُعتقد أنهم أيَّدوا الانقلاب، بينهم 125 جنرالاً من أسلحة الجو والبر والبحر بحسب “معهد واشنطن”، ولغاية الآن، وضعت السلطات التركية 9322 عسكرياً وقاضياً وشرطياً قيد الملاحقة القضائية، وأعلنت وزارة التربية تعليق عمل أكثر من 15 الفاً من موظفيها، وطلب مجلس التعليم العالي في تركيا استقالة 1577 شخصاً من رؤساء وعمداء الجامعات الحكومية وتلك المرتبطة بمؤسسات خاصّة، للإشتباه بارتباطهم جميعاً بجماعة فتح الله غولن، كما أبطل المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون، جميع حقوق البثّ والتراخيص الممنوحة من المجلس الأعلى لجميع مؤسسات الخدمات الإعلامية ذات الصلة، والمرتبطة والداعمة لجماعة غولن المعروفة في تركيا بإسم “الكيان الموازي”، نتيجة سيطرتها على مفاصل رئيسية ضمن كافة قطاعات الدولة التركية، كما اشتمل قرار التطهير 257 من العاملين في رئاسة الوزراء، وأفادت وكالة “دوغان” الإخبارية أن رئاسة الشؤون الدينية عزلت 492 من موظفيها عن مواقعهم، وأبعدت هيئة التنظيم والرقابة للعمل المصرفي 86 من موظفيها الفنيين، وأُقيل 300 شخص في وزارة الطاقة والموارد الطبيعية، كما أقالت الاستخبارات التركية 100 من عناصرها، وأن 24 شركة إعلامية قد أقفِلت، و سُحبت البطاقات الصحافية من 34 صحافياً من المُقرّبين من غولن.
وإذا كانت جماعة فتح الله غولن تُعتبر “الكيان الموازي” قبل الإنقلاب، فإن مجموعة من “الكيانات الموازية” قد نشأت ما بعد الإنقلاب، نتيجة ردَّة فعل أردوغان وهواجسه التسلُّطية وتصرفاته كما الذئب الجريح، في مواجهة خصوم حقيقيين، وخصوم إفتراضيين، مما جعل قطاعات الدولة التركية ترتعد كالقطعان المذعورة، ويُنذر بنشوء كيانات موازية حتمية ستدخل مع الدولة التركية في صراعات لا نهاية لها سوى بنهاية أردوغان.
الكيان الموازي الثاني هو الجيش، الذي أثبت عدد كبار ضباطه وعديد عناصره الذين اعتُقلوا أو أُقصوا أنه متورِّط، ومنقسم على نفسه، خاصة أنه ناقم على أردوغان نتيجة إلحاق الأخير قيادة الجيش بمجلس الوزراء، ولم يعُد هذا الجيش منذ إنطلاقة أردوغان كرئيس حكومة ومن ثم رئيس جمهورية، الحارس المُطلق للإرث العلماني لمصطفى كمال أتاتورك، إضافة الى توريط هذا الجيش في الحرب على سوريا وبدء توالُد التململ داخل صفوفه.
وحيث أن مسؤولين أوروبيين إتهموا أردوغان بشن حملة تطهير معدَّة مسبقاً، فقد اعترف المتحدث باسم الرئيس التركي “ابراهيم كالين” بذلك وقال: “إن بعض الجنرالات والقادة الموقوفين، كانوا يدركون أنهم سيُقالون خلال أول اجتماع كان مقرراً للمجلس العسكري، وكانوا يعلمون بأنهم على اللائحة، وقد رأوا بطريقة ما في الانقلاب الوسيلة الأخيرة للحؤول دون إقالتهم”، فيما ذهبت صحيفة “التايمز البريطانية الى ما هو أخطر، حيث ذكرت أن قائد القوات البحرية التركية الأدميرال “فيسل كوسيلي”، متوارٍ عن الأنظار منذ محاولة الانقلاب ومعه 14 سفينة حربية، بينها فرقاطة ضخمة، وليس معروفاً ما إذا كان من بين الانقلابيين الفارين، أم أنه محتجز لديهم منذ ذلك الوقت. وأشارت الى أن السفن الـ14 تُعتبر مفقودة، وبالتالي فإن الإنقلاب قد مزَّق الجيش التركي معنوياً بسرعة قياسية بعد أن أقصاه أردوغان سياسياً منذ سنوات.
الكيان الثالث، يتشكَّل من أحزاب المعارضة وبخاصة “حزب الشعب الجمهوري” و”الحركة القومية”، والأحزاب المُعارِضة وإن وقفت ضد الإنقلاب حرصاً منها على استمرار وجودها السياسي، ورفضاً للعودة الى الحُكم العسكري، لكنها ترفض قطعياً هيمنة “حزب العدالة والتنمية” على مقدرات الحكم وجموح أردوغان الى النظام الرئاسي الذي يجعله الحاكم المطلق.
الكيان الرابع وهو بيت القصيد: “حزب الشعوب الديموقراطي” الكردي، وما يتفرَّع عنه من تنظيمات كردية داخل وخارج تركيا. فخلال زيارة أردوغان الى أميركا منذ نحو أربعة أشهر، لحضور قمَّة الأمن النووي في واشنطن، جرت مشاورات مطوَّلة مع الرئيس أوباما، وُصِفت بالمُهمَّة لسماع وجهات نظر كلا الطرفين فيما يخص كيفية مواجهة التنظيمات الارهابية في المنطقة، والأولوية الأميركية لمحاربة “داعش” كونها على رأس التنظيمات الارهابية، بينما التصنيف التركي وضع حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات وحدات حماية الشعب على رأس هذه التنظيمات الارهابية.
نعم، الكيان الرابع هو بيت القصيد، والكابوس الأبدي لتركيا قبل أردوغان وبعده هُم الأكراد، وخرائط كردستان الصغرى والكبرى تتداولها دوائر القرار الأميركي منذ نصف قرن، وأميركا التي كانت خارج إطار سايكس – بيكو، تعتبر أن تركيا في الذكرى المئوية لهذه الإتفاقية، لم تفِ بوعودها التي ألزمتها باحترام حقوق الأقليات والأكراد بشكلٍ خاص، ويبدو أن أميركا ماضية على الأقل في تنفيذ كردستان الصغرى (شمال سوريا والعراق)، وأردوغان عاجزٌ خاصة بعد الإنقلاب، عن مواجهة أميركا والغرب نتيجة التمزُّق في الوحدة الداخلية ومعركته المفتوحة مع الجيش.
وأمام وضعٍ داخلي ممزَّق، وجوارٍ أوروبي يرفض متابعة بحث ضمَّ تركيا الى الإتحاد بعد مشهدية ذبح جندي تركي على جسر البوسفور، ومُعارضة أوروبية إستباقية لتطبيق الإعدام، واعتراض على حالة الطوارىء التي أعلنها أردوغان أمس لثلاثة أشهر قابلة للتجديد ثلاثة أشهرٍ أخرى، وأمام عداوات نسجها أردوغان مع سوريا والعراق ومصر والإمارات، فإن “السلطان”يبدو وكأنه يسوق تركيا مجدداً الى حالة “الرجُل المريض”، وقدر تركيا أن تشهد انقلابات ونهايات مأساوية منذ سلاطين الزمن الغابر وصولاً الى سلاطين العصر…