نص الخطبة
يقول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
للوقت في الاسلام أهمية كبيرة كونه مساحة للعمل والعطاء والتكامل والانتاج، ولذلك لا بد ان يستثمره الانسان كله، وأن لا يضيع منه شيئاً في الفراغ واللهو واللعب، وكما ان الطالب يغتنم اليوم والساعة والدقيقة، ويستفيد من كلِّ المعلِّمين ومن جميع الفرص المتاحة له قبل يوم الامتحان، ليحصل على نتيجة جيدة ومرضية، كذلك الإنسان في الدنيا عليه أن يغتنم كلّ فرصة متاحة له قبل يوم الحساب، بحيث لا تذهب أيّ دقيقة هدراً من عمره ، قبل ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾.
على الانسان ان يستثمر عمره وأيامه وساعاته بالعمل والطاعة، بالعمل لما ينفعه في الدنيا والاخرة.
يقول الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة: فسابقوا – رحمكم الله – إلى منازلكم التي أُمرتم أن تعمّروها، والتي رُغّبتم فيها ودُعيتم إليها، واستتمّوا نِعَم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته فإنّ غداً من اليوم قريب، ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيّام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر.
ويشير الامام زين العابدين(ع) الى كيفية استثمار العمر بقوله في دعاء الصباح والمساء الوارد في الصحيفة السجادية: وَ هَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ، وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ، إِنْ أَحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْدٍ، وَإِنْ أَسَأْنَا فَارَقَنَا بِذَمٍّ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَارْزُقْنَا حُسْنَ مُصَاحَبَتِهِ، وَاعْصِمْنَا مِنْ سُوءِ مُفَارَقَتِهِ بِارْتِكَابِ جَرِيرَةٍ، أَوِ اقْتِرَافِ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ وَ َجْزِلْ لَنَا فِيهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَأَخْلِنَا فِيهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَامْلَأْ لَنَا مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ حَمْداً وَشُكْراً وَأَجْراً وَذُخْراً وَفَضْلًا وَإِحْسَاناً .. وَلَا تُخْزِنَا عِنْدَهُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِنَا. اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِهِ حَظّاً مِنْ عِبَادِكَ، وَنَصِيباً مِنْ شُكْرِكَ وَشَاهِدَ صِدْقٍ مِنْ مَلَائِكَتِكَ.
هذه الاعمال يجب ان يبادر اليها الانسان وان لا يسوف ولا يماطل ولا يكون لديه طول الأمل، لأن هناك كثيراً من الناس من يلتفت إلى تقصيره في عبادته، وفي قيامه بالأعمال الصالحة، ومنهم من عليه قضاء بعض الصلوات وبعض أيّام الصيام، وبعض الواجبات الأخرى، ولكنه لا يبادر اليها، ولو سألته لمَ لا تبادر لقضاء ما فاتك من هذه الواجبات؟ لتذرّع بضيق الوقت، وعدم الراحة، وانشغال البال، وكثرة الهموم، وغير ذلك… وأنّه ينوي إن شاء الله القيام بكلّ هذه الأعمال، ولو رجع إلى قرارة نفسه وسألها لوجد أن هذه أجوبة يسكت بها الآخرين، ولكنّ نفسه اللوّامة لا تقنع بهذه الأجوبة، يقول تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾، فإنّ هذه الأعذار التي يُلقيها ليست إلّا وسوسات شيطانيّة لتبقى النفس مرتاحة من هذه الواجبات، وليبقى إبليس يُسيطر على نفسه يوسوس فيها بالتسويف والتأجيل والتأخير.. فهل سأل هذا الإنسان نفسه أنّه هل سيعيش إلى الغد؟ ومن يضمن له أنّه باقٍ إلى السنوات المقبلة ليتمكّن من كلِّ هذه الأمور قبل أن يُباغته الأجل؟ فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): ما أنزل الموت حقّ منزلته من عدّ غداً من أجله.
قال: وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما أطال عبد الأمل إلّا أساء العمل، وكان يقول: لو رأى العبد أجله وسرعته إليه لأبغض العمل من طلب الدنيا” .
وكثيرٌ من الناس من يفرح بسنيّ عمره ويحتفل كلّ سنة بمولده وهو ما يُعبّر عنه (بعيد الميلاد) ويدعو الناس للاحتفال بهذا اليوم ويصرف الأموال والهدايا، والبعض يحتفل برأس السنة وبالعام الجديد، ويصرف الاموال لذلك، وهو غافل عن أنّ هذه السنة قد مضت من عمره وأن عمره قد قصرَ، وأنّه اقترب أكثر من القبر، وأنّه يستطيع عدّ هذه السنوات والأيّام، ولكن هناك من يعدّ له أنفاسه ويحسبها له، وأنّه سوف يُحاسب على كلِّ نَفَس في هذه الدنيا كيف أطلقه، هل في طاعة الله أم في معصيته، فعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله عزّ وجلّ: ﴿… إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ ؟ قال: “ما هو عندك ؟ قُلت: عدد الأيّام، قال: إنّ الآباء والأمّهات يُحصون ذلك، لا، ولكنّه عدد الأنفاس”.
ومن يضيع وقته ولا يستفيد منه سوف يندم يوم القيامة، والقرآن الكريم يشير إلى أولئك الذين ضيّعوا أعمارهم في هذه الدنيا دون الاستفادة منها بما ينفعهم، ودون الاستفادة منها بما يكون خيراً لهم في آخرتهم، يقول تعالى تعبيراً عن حالة الندم عند هؤلاء: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾
ويُشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى حالة ندم هذا الشخص عند سكرة الموت: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾.
البعض لا يكتفي بتضييع وقته، بل ويضيع ايضا وقت الآخرين، فلا يُعطي أيّ أهمّيّة ولا أدنى حرمة لأوقات الاخرين، بل يهدر أوقات الآخرين بأعذارٍ واهية وبأساليب مختلفة او على امور لا فائدة منها.
فالبعض يُعطي الموعد بعد الآخر وهو على علمٍ أنّه سوف لن يفي بالموعد، وعليه، يكون قد وقع في محرّمين اثنين، فهو من جهةٍ وقع في محرّم الكذب ومن جهة أخرى أتلف وقت الآخرين وهم ينتظرونه، وقد يعتاد على هذا الأمر فيسيء الى سمعته ومكانته وبفقد مصداقيته وثقة الناس به..
والبعض يُقيم عند الآخرين في أوقات عملهم فيهدرها سدى، أو يجلس مع أشخاص جلسة لا فائدة منها وهو يهدر وقته ووقت الآخرين على جلسات فارغة لا تُستغلّ بالعلم والمعرفة أو العمل النافع، وإنّما بالمزاح واللّعب والضحك، هذا إن لم تجرّهم الأحاديث إلى النكات الفاضحة وغيبة الناس والحديث عن عيوبهم وعثراتهم وسلبياتهم بما يؤديالى الاساءة لللاخرين وهتك اعراضهم وحرماتهم.
هناك الكثير من الاشخاص والشباب يهدرون اوقاتهم واوقات الاخرين في المقاهي وفي الفراغ ومن دون اي نتاج فتذهب اعمارهم سدى من دون ان يستفيدوا منها.
كما ان البعض وخاصة الشباب والفتيات يهدرون الكثير من وقته ووقت الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي بلا فائدة فيتحادث بعضهم مع الآخرين لأوقات طويلة بأشياء لا فائدة منها او يقضون اوقاتا طويلة على بعض الالعاب الرائجة بلا طائل، وهذا هدر للوقت ، نعم، يمكن ان يقضي الانسان بعض الوقت على أشياء مفيدة على وسائل التواصل كأن يقرأ بعض المقاطع المفيدة او يعمل على ترويج بعض الأفكار والآداب المفية وهكذا..؟أما ان يقضي معظم وقته صباحا ومساءا على وسائل التواصل لمجرد الثرثرة او اللعب فهذا تضييع للعمر الذي هو أغلى ما يملكه الانسان.
ففي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر يقول له: أبا ذرّ, كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك”.
أي أنّ قيمة الوقت والعمر أسمى وأرفع وأغلى من قيمة المال، لأنّ إتلاف المال يُمكن تعويضه ، بينما إتلاف العمر ا – وهو أهمُّ من المال – لا يُمكن تعويضه!
اليوم كم من الوقت اضاعه السياسيون على اللبنانيين وعلى لبنان؟.
لقد أضاع السياسيون الكثير من الوقت والفرص على لبنان واللبنانيين، فقد مضى سبعة اشهر ونصف واللبنانيون ينتظرون تشكيل الحكومة والى اليوم لم تشكل الحكومة وليس معلوما متى ستتشكل لأن الصورة لا تزال قاتمة حتى الآن، واجواء اللقاءات التي تُعقد في شأن الملف الحكومي لم تصل بعد الى اي نتيجة ايجابية، بالرغم من ان الجميع يتحدث عن أهمية الاسراع في التشكيل وعن وجود مخاطر اقتصادية ومالية وسياسية كلما تأخرتشكيل الحكومة.
اليوم العقدة الاساسية واضحة وحلها واضح ومفتاح الحل هو بيد الرئيس المكلف، فهناك تكتل من السنة المستقلين أفرزته الانتخابات النيابية ولديه امتداد شعبي وسياسي ومن حقه أن يتمثل في الحكومة، وقد قدم اللقاء التشاوري تنازلا عندما قبل ان يتمثل بوزير من خارجه وعلى الرئيس المكلف ان يلاقي هذه الخطوة بخطوة مماثلة من أجل انقاذ البلد، لانه إذا بقينا على هذا الوضع، سيبقى البلد امام اشهر من التعطيل، وهو بات لا يتحمّل، بل انه ينزلق شيئاً فشيئاً نحو الهاوية.
المصدر: بريد الموقع