نص الخطبة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ سورة آل عمران:الآية 104.
نعزيكم ونعزي جميع المسلمين ونعزي صاحب الزمان(ع) بشهادة الامام الحسن بن علي بن ابي طالب(ع).
الامام الحسن(ع) كان كأخيه الامام الحسين(ع) من أبرز امرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وعندما ندقق في أبعاد ومنطلقات واهداف فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سنجد أن الأهداف التي يريدها الإسلام من هذه الفريضة ليس التدخل في شؤون الناس الخاصة، ولا تقييد حرية الآخرين، ولا اقتحام خصوصيات حياتهم والدخول الى قضاياهم الخاصة، وإنما الهدف والدافع الحقيقي هو: الحرص على مصلحة الإنسان وانقاذ الانسان من المعاصي والسيئات والأخطاء التي قد يقع فيها، فإذا نصحت إنساناً مثلا أن ينتبه حال قيادته السيارة من الحفرالموجودة في الطرقات حتى لا يقع فيها، فانما تنصحه وتنبهه وتلفته من أجل مصلحته هو، حتى لا يتأذى، وإذا نصحت إنساناً ان لا يأكل طعاما مسموما او مضرا، فهو من اجل مصلحته ومن حرصك على صحته وحياته.
فالانسان انما يتوجه الى اخيه الانسان بالنصح والارشاد والتنبيه وبالامر بالمعروف والنهي عن المنكرات والسيئات انطلاقا من محبته واخلاصه له وحرصه على مصلحته، لأن الإسلام يريد للمؤمنين أن يتناصحوا ويتواصوا بالحق، وأن يعيشوا حالة متبادلة من الحرص على مصلحة بعضهم البعض ، وأن يحملوا في قلوبهم محبة بعضهم البعض، فيأمر أحدهم الآخر بما فيه مصلحته، أو ينهاه عما فيه ضرره كما في الحديث الشريف: «أحبب لأخيك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها». فكل شيء يحبه المؤمن لنفسه يحبه لأخيه وكل شيء يكرهه لنفسه يكرهه لأخيه.
ولذلك لا يجوز ان يقف الانسان موقف الامبالي وموقف المتفرج على اخيه الانسان وهو يبتلي بالسيئات والمعاصي، فينظر إلى المعاصي وإلى أهل المعاصي بلا اهتمام ولا مبالاة بما يجري امامه !.
الذي لا يهتم بمصلحة الآخرين ولا بما يضرهم وما ينفعهم، ويقف موقف المتفرج على ما يصدر منهم، هو انسان يعيش الانانية ولا يحب الا نفسه وذاته.
وهذا الموقف في حدّ ذاته معصية، لان الإقرار على المعصية والسكوت عنها هو نفسه معصية للَّه، و بقاء المعصية من دون تغيير، يعني تعريض أفراد المجتمع للوقوع فيها وشيوعها بين افراد المجتمع.
لذلك لا يصح التراخي أمام السيئات والمنكرات والفساد الذي يحصل امامنا، بل لا بد من المبادرة الى النصح والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لا بد لمن يقوم بهذه المسؤولية الالهية ويبادر الى نصح الناس ويأمر وينهى ويعظ الناس من ان يراعي مجموعة من القواعد والضوابط والسياسات:
اولا: ان يكون ملتزما هو بما ينصح الناس به، فلا قيمة ولا تأثير لمن يأمر بالمعروف والخير والبر ولا يعمل به، كما لا قيمة لمن ينهى عن الحرام وهو يمارسه. (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُون).
ثانيا: التوجه نحو جيل الشباب والمراهقين وإيلائه الأهمية الكبرى في موضوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هذه الشريحة هي الأكثر استهدافا في الحرب الناعمة المفتوحة ضدنا، وهي الأكثر عرضة للانحراف والوقوع في الشهوات والملذات، والأكثر تاثرا بالبيئة المنحرفة، فلا بد من اعطائها عناية خاصة، وهذه مسؤولية الأهل داخل العائلة الآباء والأمهات يجب ان يتابعو أبنائهم واولادهم بشكل دقيق وحثيث ومعرفة مع من يذهبون ويأتون ومن يعاشرون حتى لا يقعوا ضحية الحرب الناعمة التي يستهدف اعداؤنا من خلالها عقول وقلوب وسلوك شبابنا وشاباتنا.
ثالثا: ان يأمر وينهى ويعظ الناس برفق وباسلوب جاذب ولين، وليس بقسوة وغلظة وباسلوب منفر من الدين، وبتعبير اخر يجب اعتماد الخطاب الواضح اللين الايجابي المرغب وغير المنفر يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ وَلَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ الله إِلَى عِبَادِ الله..
ولا بد من الالفات في هذا المجال الى اهمية الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام المختلفة في ممارسة هذه الفريضة بالاسلوب المشوق وبالطريقة المناسبة.
رابعا: أن ننظر إلى العصاة نظرة عطف وإشفاق ورأفة، فهذا الإنسان العاصي هو انسان مريض لأن الانسان المريض تارة يكون مرضه في جسده وبدنه وتارة اخرى يكون في نفسه وروحه فاذا كان مريضا في جسده وذهب الى الطبيب ليعالجه فلا يجوز للدكتور المعالج أن ينتقم منه ويوبخه ويتعاطى معه بحدة بل يرفق بحاله ويشفق عليه ويفكر في علاجه؟، ويعطيه الدواء المناسب، وكذلك اذا كان الانسان مريضا في روحه ويترك الواجبات ويفعل المحرمات.
فلا يجوز ان نتشفى منه او ان نسبه او نلعنه اذا ارتكب الحرام كما يفعل بعضنا عندما يشاهد او يسمع عن انسان يرتكب المعاصي بل لا بد من التوجه اليه برحمة وشفقة واحتضانه وهدايته ونهيه عن الحرام برفق ولين حتى نستقطبه الى التدين والالتزام ولا ننفره من الدين.
الاسلام شدد على ذلك لان البعض قد يتخذ موقفاً مختلفاً من أصحاب المعاصي، وهو موقف الانتقام والتشفي منهم وسبهم وشتمهم ولعنهم وفضحهم والتشهير بهم، وهذا موقف خاطىء، ينفر الاخرين من الدين ولا يقربهم اليه.
فقد روي انه «جيء بشارب للخمر الى النبي(ص) فأمر النبي (ص) أصحابه فأقاموا عليه الحد. ثم قالوا: ألا تستحي من رسول اللَّه تصنع هذا؟ ثم أطلق النبي(ص) صراحه الرجل صار الناس يدعون عليه ويسبونه فبعضهم يقول: اللَّهم اخزه! وبعضهم يقول:اللَّهم العنه! فلما سمعهم النبي (ص):نهرهم وقال: لا تقولوا هكذا، لا تكونوا للشيطان على أخيكم، ولكن قولوا: اللَّهم اغفر له، اللَّهم اهده.
فالسب والشتم والحقد واللعن لن يعالج المشكلة، بل قد يزيد العاصي إصراراً على المعصية، أما الدعاء له بالهداية والصلاح، واتباع الحكمة والموعظة الحسنة في الحديث معه سوف يكون له أثر كبير في استمالة قلبه، واستقطابه، وتغيير تصرفاته،
خامسا: مراعاة سمعة الانسان بحيث يحافظ المصلح على عدم فضح المذنب وإفشاء ذنبه، ونشر اخطائه بما يؤدي الى تشويه سمعته، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وفريضة، لكن الهتك والفضح ونشر العيوب محرم، ويندرج فاعله ضمن أولئك الذين عدّهم اللَّه تعالى من ﴿الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾ سورة النور: الآية 19.
فاذا كان المذنب متسترا ويمارس معصيته بعيداً عن أعين الناس، وليس متجاهرا بالفسق والمعصية. فينبغي أن تساعده على تجاوز لحظة الضعف، وكتمان ذنبه من أهم الخطوات في هذا المجال، إذ بقاء سمعته حسنة أمام الناس سوف يكون عاملاً ذا تأثير في إقلاعه عن الذنب. قال (ص): من ستر أخاه في فاحشة رآها عليه ستره اللَّه في الدنيا والآخرة.
أما من يمارس المعصية جهارا أمام الناس فقد فضح نفسه بنفسه وحينئذٍ فلا حرمة له، لأن أحداً لم يهتك ستره، إنما هو الذي هتك ستر نفسه.
ولا بد في هذا المجال ايضا من الانتباه الى عدم التطرق الى الارقام او الاحصاءات وعدم نشر معلومات ومعطيات عن الحالات التي تمارس المنكر وعن مواقع وبؤر الفساد والمنكرات كي لا يؤدي ذلك الى الاحباط او التشويه او المس بسمعة وكرامة المجتمع المتدين، خصوصا اذا كانت الجهة التي تتابع هي جهات عامة مثل الجمعيات والبلديات والجهات الأخرى.
هذه المسؤولية هي مسؤولية الجميع وكل شرائح المجتمع وعلى الجميع انيبادر الى تملها في مواجهة المنكرات الفردية وفي مواجهة المنكرات والجرائم الكبرى التي ترتكبها الدول والانظمة الفاسدة.
اليوم المشهد الذي يرسمه المحور الأمريكي السعودي لنفسه هو مشهد الإنحدار على كل صعيد وفي أكثر من قضية.
فأولا: الثقة بين الولايات المتحدة وبين السعودية أهتزت إلى حد كبير بعد سلسلة المواقف والفضائح والاهانات التي اطلقها ترامب بحق السعودية من أجل ابتزازها ونهب أموالها. ومنيت السعودية بخسائر كبيرة وفادحة في كرامتها ومكانتها وسمعتها، ووضعت في موقف مذل ومهين، ولم نجد في مقابل هذه الإهانات وهذا الحجم من الاذلال والتهويل سوى الخضوع والسكوت والصمت الذي يكشف عن عجز ورهبة وخوف.
وثانيا: السقوط الاخلاقي والسياسي والاعلامي المدوي للسعودية في قضية الخاشقجي هذه القضية التي كشفت الى جانب الكثير من القضايا المماثلة التي يرتكبها النظام في الداخل وفي الخارج والى جانب العدوان على اليمن عن الوجه الحقيقي الاجرامي واللاانساني لهذا النظام الذي يشبه في ممارساته الاجرامية ممارسات داعش والجماعات الارهابية المتوحشة.
هذا النظام يستحق كل هذا التشهير وكل هذا الانحدار على المستوى الدولي، لانه كان يخدع العالم بتمظهره بمظهرالخير، ويشتري صمت بعض الدول والانظمة على رعايته ودعمه للجماعات التكفيرية الارهابية وعلى جرائمه وارتكاباته في اليمن وسوريا والبحرين وغيرها.
ان قضية الخاشقجي وبمعزل عن رأينا فيه تحولت الى وصمة عار في وجه النظام السعودي لن تستطيع أميركا محوها لا بمخارج ولا بأموال ولا بأي تسويات، فالفضيحة المدوية التي أحدثتها هذه القضية على المستوى الاعلامي والسياسي هي من النوع الثقيل الذي لا يمكن محوه بسهولة ، واذا اراد ترامب ان يحمي محمد بن سلمان هذه المرة من تداعيات هذه القضية فانه سيبدو أمام الرأي العام وكأنه يحمي مجرمين وقتلة .
إن إهانات ترامب للسعودية واذلاله لها هو نتيجة طبيعية لمسار التبعية المطلقة الذي انتهجته السعودية للسيد الأمريكي طيلة العقود الماضية وتم تكريسه مع وصول محمد بن سلمان إلى السلطة كولي للعهد.
هكذا تفعل أميركا مع حلفائها وأصدقائها الذين يستجدون التحالف معها، فهي لا تحترمهم إلا إذا دفعوا، ولا تحمي عروشهم إلا بمقابل المال، وإذا تخلّفوا عن دفع المزيد من المال يهددون برفع الحماية، ويهانون ويذلون، ويداس على كرامتهم، دون أن يقووا على الرد أو التفوه بكلمة في وجه السيد الأمريكي رهبة وخوفا من رفع الغطاء عنهم.
هذا هو حال السعودية مع حليفتها الولايات المتحدة، وهذا يجب ان يكون عبرة لكل من يراهن على الولايات المتحدة ولكل من يسير في ركب الولايات المتحدة التي ليس لها صديق ولا حليف حقيقي في هذه المنطقة سوى إسرائيل التي توفر لها الرعاية والحماية بلا مقابل بل تدعمها بكل أشكال الدعم السياسي والمالي والعسكري لتبقى هي الأقوى في المنطقة.
ولذلك على الدول والحكومات التي تعتبر نفسها حليفة وصديقة للولايات المتحدة ان تأخذ العبرة وان تعيد النظر.
والسعودية هي اول من يجب ان يعتبر ويعيد النظر ويتأمل ويفكر في تبعيته المذلة لاميركا، وهي أمام فرصة بعد اهانات ترامب للخروج من سياسة التبعية العمياء للولايات المتحدة والعودة إلى محيطها العربي والإسلامي، فالحوار والتفاهم والتعاون مع دول المنطقة هو السبيل لإستقرار المنطقة ولحماية المنطقة من التدخلات الأمريكية والإسرائيلية ولانهاء الحروب الداخلية والدفع باتجاه التصالح في اليمن وسوريا والعراق والبحرين وايران.
أيهما اشرف وافضل وأوفر أن تدفعوا مئات المليارات لترامب أو أن تنفقوا مئات المليارات هذه على شعوبكم لمعالجة المشاكل التي تعاني منها ؟.
لو سادت روح التفاهم والتعاون بين دول وشعوب هذه المنطقة وسخرت هذه الامكانات المالية في خدمة هذه الدول والشعوب لاستطاعت ان تصبح في مصاف الدول القوية والمتقدمة ولما استطاعت لا اميركا ولا اسرائيل ان تفرض سياساتها وهيمنتها على المنطقة.
والحمد لله رب العالمين
المصدر: انترنت