نص الخطبة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
بداية نعزيكم ونعزي جميع المسلمين بمناسبة شهادة الإمام السابع من أئمة أهل البيت(ع) وهو الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) التي تصادف في الخامس والعشرين من شهر رجب، ونبارك لكم ولجميع المسلمين على امتداد العالم ذكرى المبعث النبوي الشريف في السابع والعشرين من شهر رجب، سائلينا الله عز وجل أن يجعل من هذه الذكرى دافعا لنا جميعا للتمسك بالقيم والمفاهيم والأخلاق والمبادئ الإلهية والإنسانية التي جاء بها رسول الله محمد (ص).
لقد أعد الله نبيه محمداً(ص) وهيأه لحمل الرسالة وإداء الأمانة وإنقاذ البشرية على امتداد السنوات الأربعين التي سبقت البعثة النبوية الشريفة، وحين بلغ النبي (ص) الأربعين من عمره الشريف اختاره الله رسولا وهادياً ورحمة للناس جميعاً (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
والمروي عن أئمة أهل البيت (ع): أن رسول الله (ص) بعث بالإسلام في السابع والعشرين من شهر رجب بعد عام الفيل بأربعين سنة أي سنة 610 ميلادية.
وقد بدأ نزول الوحي عليه (ص) بواسطة جبرائيل الأمين (ع) في غار حراء ، وهو كهف صغير في أعلى جبل حراء في الشمال الشرقي من مكة. كان النبي (ص) يتعبد فيه لله على النحو الذي ثبتت له مشروعيته حيث كان النبي(ص) كما آباؤه وأجداده يتعبدون قبل الاسلام على دين ابراهيم وشريعة ابراهيم(ع).
وتفيد الروايات أن أول آيات قرأها جبرائيل على النبي (ص) هي قوله تعالى في سورة العلق:(إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
وبعد تلقيه هذا البيان الإلهي، عاد النبي (ص) إلى أهله وزوجته مستبشراً مسروراً فرحاً بما أكرمه الله من النبوة والرسالة، ومطمئنا إلى الدور والمهمة التي شرفه الله بها، فلم يكن خائفا أو مترددا أو قلقا أو مرعوبا مما جرى له، بل كان عالما بنبوة نفسه وكان ينتظر اللحظة التي يأتيه فيها جبرائيل ليعلن نبوته ورسالته، فلما دخل على زوجته خديجة أخبرها بما أنزل الله عليه ، وما سمعه من جبرائيل فقالت له: إبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيراً، وابشر فإنك رسول الله حقاً.
وقد سئل الإمام الصادق (ع): كيف لم يخف رسول الله (ص) فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزع به الشيطان؟.
فقال (ع) إن الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه.
وهكذا .. انتشر خبر نزول الوحي الإلهي على النبي (ص) في وسط البيت النبوي … فبادر عدد من الذين وصلهم الخبر إلى تصديق النبي (ص)والإيمان برسالته، ويوصف الذين بادروا إلى الإيمان بـ السابقين، وقد اعتبر السبق إلى الإسلام امتيازا ومعيارا للفضل والكرامة وعلو المنزلة ورفيع الدرجة..
وقد اتفق المؤرخون والمحدثون على أن علي بن أبي طالب (ع) هو أول الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً برسول الله (ص) وكان عمره إنذاك عشر سنوات أو إثنتي عشرة سنة.
ومن المسلمات التاريخية أيضا أن خديجة بنت خويلد زوجة النبي الأولى، كانت أول إمرأة آمنت وصدقت برسول الله (ص) في اليوم الثاني من مبعثه، وما على وجه الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلا النبي (ص) وعلي بن أبي طالب (ع).
وقد كانت خديجة وعلي عليهما السلام الى جانب رسول الله في كل المراحل وقفا معه ودفعا عنه وضحيا بالغالي والنفيس عن الرسالة.
وقد حدثنا علي (ع) عن هذه الأجواء فقال (ع) وهو يصف حاله مع رسول الله (ص): (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة..).
ومهما يكن من أمر فقد بُعث النبي (ص) ليكون رسول رب العالمين إلى الناس جميعاً يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، وليكون قائد اعظم ثورة عرفها التاريخ البشري، ثورة تقوم على أساس الهدى والحق والصدق والطهر والعفاف وكل القيم التي جاء بها الاسلام.
وقد استطاع هذا الرسول في فترة وجيزة وقليلة لم تتجاوز الثلاثة وعشرين سنة ان ينقل الأمة من ظلمات الجهل والجاهلية الى نور الاسلام وأن ينقل الامة من الضياع والحروب والعدوان الى الثبات والأمن والسلام حيث كانت لأتفه الأسباب تنشب الحروب بينهم فيسقط الآلاف من الضحايا
لقد استطاع النبي(ص) أن يحقق أعظم إنجاز في منطقة يسود فيها الجهل وينعدم فيها القانون وتسيطر عليها الحروب والقسوة والفاحشة وكل مظاهر التخلف والانحطاط.
لقد استطاع الإسلام أن يحدث انقلاباً حقيقياً وجذرياً في عقلية ومواقف وسلوك وأخلاق وقيم تلك الأمة المشرذمة ..
وما كان باستطاعة النبي(ص) ان يحقق كل ذلك وأن يصنع هذا التحول في العالم لولا معجزته الخالدة وهي القرآن الكريم الذي حير العرب بمضامينه وقيمه وتشريعاته وبلاغته وبيانه. وما كان باستطاعة النبي(ص) ان يحقق الإنجازات والانتصارات لرسالته وللاسلام لولا سيرته وأخلاقه ورحمته وسلوكه الفردي والاجتماعي والقيادي.
فقد امتازت شخصية رسول الله بالأخلاق الإنسانية السامية وحسن معاشرة الناس ومعاملتهم بالرفق واللين والرحمة والعفو والتسامح والتواضع والترفع عن إساءاتهم وتجاوزاتهم.
يقول القرآن وهو يحدثنا عن رسوالله(ص): (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا عليظ القلب لانفضوا من حولك).
(لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)
(وما ارسلناك الا رحمة للعالمين)
رحمته ورأفته وعطفه وحنانه هو الذي اسقطب الناس اليه والى رسالته ودينه.
وقد روى الامام علي (ع) لنا جانباً من سيرته وصفاته وقيمه هذه فقال:
كان رسول الله (ص) دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح.
وكان يخاطب قومه ويقول: يا بني عبد المطلب انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر.
هذا اولا.
وثانيا: هناك إصراره على مواصلة طريق الدعوة وصبره وثباته وتحمله لكل المشاق والأذى والصعاب والمعاناة والضغوط والتحديات، إن ثباته وإصراره على مواصلة مشروعه ومواجهة كل اشكال التحدي كان له الأثر الكبير في ظهور دعوة النبي (ص) وانتصارها أيضاً.
وثالثا: صمود أصحابه الأطهار المجاهدين وثباتهم في مواجهة الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتحملهم للآلام وصبرهم على التعذيب والجوع والحصار والاضطهاد والقهر والظلم ،واندفاعهم للجهاد والتضحية والشهادة بكل قوة وشجاعة وشوق وعشق من أجل الدفاع عن عقيدتهم ووطنهم وكيانهم وأمتهم، كل ذلك ساهم أيضا في امتداد الإسلام وانتشاره.
قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من اثر السجود وذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل.
لو ان النبي(ص) لم يكن لديه مثل هؤلاء الأتقياء المجاهدين المستعدين للتضحية ولو لم يكن لديه أتباع ثابتون لاصابرون لا يخافون ولا يقلقون ولا يترددون ولا يتراجعون ويواجهون مختلف التحديات والحروب النفسية والتهديدات لما استطاع ان يحقق كل تلك الانجازات والانتصارات ولما انتشر الاسلام وتمدد في الآفاق.
الصمود والثبات والاصرار على مواجهة التحديات وعدم الخضوع للابتزاز والتهديد والوعيد كان على الدوام يفشل مشاريع الأعداؤ ومخططاتهم ومكائدهم.
واليوم أيضا وفي المستقبل الصمود الثبات عدم الخوف من التهديد والتهويل والاستعداد للمواجهة والتضحية بكل قوة وارادة وتصميم يفشل العدوان ويحبط الأعداء ويربكهم ويجعلهم في حيرة وتردد وضياع كما هو حال الرئيس الأمريكي اليوم حيال العدوان على سوريا..
التصعيد الأمريكي الغربي ضد سوريا مرتبط بشكل عام بفشل مشروعهم في سوريا وفشل رهاناتهم الواحدة تلو الأخرى، ومرتبط أيضاً وبشكل خاص وأساسي بما حصل في الغوطة الشرقية ومحيط دمشق، حيث فشل الرهان الأمريكي الغربي السعودي على الجماعات الارهابية في هذه المنطقة التي كانت تشكل بالنسبة لهم قاعدة أساسية لاستهداف النظام بحكم قربها من العاصمة دمشق.
كان الموجود في الغوطة أكثر من عشرين ألف مقاتل من جيش الاسلام ومن فيلق الرحمن ومن بقية الجماعات الارهابية الأخرى، وكان لديهم دويلة في الغوطة وكانوا يشكلون تهديداً مباشراً لدمشق من جوبر وغيرها..
كل هذه الفصائل انهزمت أمام ضربات الجيش السوري وحلفائه وتم تحرير الغوطة الشرقية بالكامل وهو إنجاز ضخم وكبير كسر ظهر الأمريكي وحلفائه وأقلق الغرب فاخترعوا مسرحية الكيميائي واندفعوا نحوالتهديد والوعيد بالعدوان والحرب على سوريا.
التصعيد الأمريكي الغربي ضد سوريا كما يكشف عن حجم الهزيمة التي مني بها المشروع الأمريكي الغربي في سوريا، فهو يكشف أيضاً عن الطبيعة العدوانية الامريكية الغربية ضد دول وشعوب منطقتنا، وعن حجم الأحقاد الاسرائيلية والسعودية ضد سوريا وإيران والمقاومة وفلسطين.. فالسعودي والاسرائيلي يحرضان أميركا على العدوان ليس على سوريا وحدها بل على إيران والمقاومة أيضاً.
التحريض السعودي للعدوان على سوريا ليس غريباً على السعودية وهو لا يحصل لأول مرة ضد بلد عربي، فقد حرضت السعودية وعلى امتداد تاريخها أميركا لضرب بعض الدول العربية والاسلامية من أجل التنفيس عن أحقادها تجاه بعض دول وشعوب المنطقة ولحماية النفوذ الأمريكي في المنطقة الذي يحمي عرشها وملوكها وأمرئها.
لقد حرضت السعودية في العام 1966 على العدوان على مصر وجاء في رسالة الملك فيصل السرية إلى الرئيس جونسون بتاريخ 22/12/1966 ضرورة أن تقوم أميركا بدعم إسرائيل بالهجوم على مصر وعلى سوريا والاستيلاء على قطاع غزة.
دعمت مصطفى البرزاني لإقامة دولة كردية في شمال العراق.
حرضت ولا تزال تحرض على ضرب إيران.
وقد فضح وزير الخارجية الأسبق جون كيري الملك عبد الله حيث قال: إن الملك عبد الله طلب منه رسمياً ضرب إيران.
وحرضت قبل مدة على ضرب قطر وفرضت عليها حصارا لا يزال قائما، وها هي اليوم تحرض للعدوان على سوريا وتبدي استعدادها للمشاركة والتمويل والدعم.
أما تحريض إسرائيل للعدوان على سوريا وعلى إيران فأمر في غاية الوضوح، فهي في كل يوم تحرض ضد إيران وهي تعتدي على سوريا وتحرض أميركا للعدوان على سوريا وتعمل على إسقاط النظام في سوريا بكل قوة.
ولذلك أبرز المحبطين اليوم من تراجع احتمالات العدوان على سوريا هي السعودية وإسرائيل.
سيصابون بخيبة أمل كبيرة إن لم يحصل العدوان خصوصاً وأن العدوان كان سيغطي على جرائم السعودية في اليمن وعلى جرائم إسرائيل في فلسطين.
وفي كل الاحوال أي عدوان على سوريا لن يغير من المعادلات الميدانية ولن يجعل المهزوم منتصرا فما بعد تحرير الغوطة الشرقية لن يكون كما قبلها.
المصدر: موقع المنار