ألقى السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين. ومما جاء في خطبته السياسية: “عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما دعا به الحسين ربه، فقد ذكرت سيرته أنه في صبيحة يوم عاشوراء، نظر إلى جيش الأعداء الذين كانوا كالسيل يعدون بالآلاف، فيما جيشه بالعشرات، فتوجه حينها بالدعاء لربه: “اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من كرب يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته عني، وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة”، فأنا أضع هذا الأمر عندك، وأقبل ما تريد لي.
هذا الدعاء، لأهمية مضمونه، من المهم أن يدعو به كل من أصابه كرب وشدة وبلاء، وهو الذي يفسر حقيقة الروح التي حكمت كل الذين كانوا في كربلاء، والتي جعلتهم لا يبالون بحجم الأعداء. كانت ثقتهم بالله كبيرة، كان لديهم الأمل فيه، وبأنه سيحقق لهم ما يريدون. وهنا، يرد السؤال: كيف تحقق لهم ما يريدون وقد استشهدوا جميعا وسبيت نساؤهم وأطفالهم؟”.
أضاف: “لقد تحقق لهم ما يريدون، فهم لم يكونوا يريدون حياتهم، بل حياة أمتهم، كانوا يريدون أمة عزيزة حرة، لا تعطي إعطاء الذليل، ولا تقر إقرار العبيد، أمة تملك خيارها ولا يملى عليها هذا الخيار، وقد تحقق لهم هذا الهدف.
لقد صنعت دماؤهم الكثير في التاريخ، وها هي تصنع في الحاضر وستصنع في المستقبل، وبها نستطيع أن نواجه التحديات.
والبداية من لبنان، الذي لا يزال يعيش على وقع الخلافات السياسية التي تعصف بأركان الحكم ومواقعه، فما أن ينتهي من أزمة حتى يقع في أخرى هي أكبر منها، يخشى إن استمرت أن تهدد أركان البلد، وأن تطيح بكل الإنجازات التي تحققت، وتعيد الفوضى، ليظهر وكأنه بدون دستور وميثاق وطني ولا تحكمه مؤسسات.
إننا رأفة بهذا البلد، ورأفة بمعاناة إنسانه، ندعو إلى أن يتوقف كل هذا النكد السياسي وشد العصب، والذي غالبا ما يأتي لحسابات انتخابية وشعبوية. إن ما ندعو إليه هو الابتعاد عن هذا الخطاب، والعودة إلى المؤسسات، بصرف النظر عن الانتقادات الموجهة إلى أدائها، لتعالج كل القضايا الحيوية فيها، سواء منها الاقتصادية، أو السياسة الضريبية، أو ما يتعلق بالنزوح وتداعياته الخطيرة على البلد، أو السياسة الخارجية”.
وتابع فضل الله: “إننا بحاجة إلى أن يرتقي من هم في المواقع السياسية إلى حجم التحديات التي تواجه البلد في اقتصاده وأمنه، وفي المتغيرات التي تجري من حوله، حيث ترسم في هذه المنطقة خرائط جديدة، إن لم يكن فوضى خرائط، ولبنان، بالطبع، لن يكون بمنأى عنها. ومع الأسف، يتعامل المسؤولون كأن البلد بألف خير، وكأن لا أخطار محدقة به.
ومن هنا، فإننا ندعو إلى مقاربة الملفات الداخلية المطروحة حاليا بروح وطنية عالية تأخذ في الاعتبار مصلحة هذا البلد، وتبتعد كل البعد في ذلك عن أي توظيف سياسي أو أي تصفية حسابات لصراع في الداخل أو اعتبارات الخارج.
إن البلد لا يحتاج إلى اصطفافات جديدة تعيد الانقسام الحاد إلى البلد، فهذه الاصطفافات هي مشروع فتنة، وستؤثر سلبا في الواقع كله، بعد أن ثبت بالوقائع أن لا خيار في هذا البلد إلا بالتوافق الذي هو مصلحة للبلد وللجميع. وإذا كان هناك من اصطفافات، فلتكن حول كيفية النهوض بهذا البلد وتحقيق استقراره، وهو الهم الذي ينبغي أن يكون هدفا للبنانيين جميعا، وعليهم جميعا العمل لتحصينه وتأمين سبله، حتى لا يبقى في عهدة القوى الكبرى والإقليمية، فإن أرادت هزه يهتز، بل أن يكون نابعا من إرادة اللبنانيين وحرصهم”.
وعن العراق قال: “بعد الاستفتاء الذي جرى في كردستان، فإننا في الوقت الذي نؤكد فيه حق الأكراد بالحصول على حقوقهم، وعدم الانتقاص منها، أسوة ببقية المواطنين الآخرين، لا نرى أن هذا الأمر يستدعي الانفصال، بل إن الانفصال قد يزيد معاناة هذا الشعب. ولذلك، نعيد التأكيد على عدم الاستمرار في هذه الخطوة، خشية تداعياتها على داخل كردستان وعلى وحدة العراق ووحدة المنطقة، ولا سيما بعد دخول العامل الإسرائيلي، سواء في تأييده لهذه الخطوة أو في ظهور علم العدو في إقليم كردستان، الذي ينبغي لقياداته أن يعلموا أن التشجيع الصهيوني لا يهدف إلى نصرة الأكراد، بقدر ما يهدف إلى زرع الفتنة وزيادة الشرخ داخل العراق وخارجه.
إننا نرى أن فرصة الحوار الداخلي لمعالجة الأزمة، لا زالت مستمرة، ولا بد لقيادات الإقليم من أن تلاقي دعوات الحكومة العراقية للحوار، لكن لا على أساس فرض الأمر الواقع، لأن البديل من الحوار ربما يضع الأكراد في عداء شديد مع جوارهم، وهو الخيار الذي لا يريده أي طرف، وستكون آثاره وخيمة على الجميع”.
وأضاف: “بالانتقال إلى فلسطين المحتلة، لا بد من أن نتوقف عند العملية البطولية التي نفذها شاب من شباب فلسطين في إحدى مستوطنات العدو في غرب القدس، والتي تؤكد أن الشعب الفلسطيني، مهما تعرض للقهر والحصار، سوف يبقى قادرا على استخدام كل الوسائل، لإشعار العدو بعدم الأمن، وبالكلفة الكبيرة للاحتلال، لإرغامه على القبول بالحقوق الفلسطينية المشروعة.
إن هذا النموذج المقاوم هو الرد الطبيعي على ظلم العدو واحتلاله، وهو دليل إضافي على أن الأجيال الفلسطينية الشابة لن تعطي العدو إعطاء الذليل أو تقر له إقرار العبيد، حتى يعود الحق لأصحابه.
وأخيرا، ونحن نقترب من إنهاء موسم عاشوراء، نسأل الله أن نكون قد استلهمنا منها كل معاني العزة والكرامة والحرية والجهاد. إن من الخطأ الجسيم أن نرى أن عاشوراء هي في مواجهة مذهب أو في سبيل تأكيد عصبية، فهي في مواجهة الظلم والجريمة والاستئثار بالمال العام والاعتداء على حقوق الناس، من أي كان، حتى لو كان شيعيا.
إننا ندعو إلى أن نكون حاضرين في ساحات إحياء عاشوراء في العاشر، كما في كل الساحات التي تمثل صراع الحق والباطل والظلم والعدل، حتى يكون في كل أرض عاشوراء وفي كل يوم كربلاء”.
المصدر: الوكالة الوطنية للاعلام