ربما اندهشت من قبلُ حين تكون مع مجموعة من الناس وتفاجأ بتغيير لغة الحديث إلى لغة أخرى مشتركة بسلاسة ومن دون تنبيه، فهناك الكثير من البشر لديهم أكثر من لغة أصلية يستطيعون التحدث بها بإتقان، فعلى سبيل المثال يبلغ عدد اللغات المستخدمة في جزيرة ماكيلونا بجنوب المحيط الهادئ 40 لغة محلية مختلفة، في جزيرة يبلغ طولها 100 كم وعرضها 20 كم فقط!، حسب دراسة أجراها معهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ البشر.
ربما لا يكون هذا الرقم مدهشاً، فالناس لا يتحدثون لغة عالمية واحدة ولا توجد لغة واحدة تجمع كل البشر في العالم، رغم مرور آلاف السنوات على تطور اللغات والألسنة. لكن بدلاً من ذلك، لدينا الآن نحو 7000 لغة مميزة (تعرف على 7099 لغة في العالم من هذا الموقع) يتم التحدث بها حول العالم اليوم، بخلاف تلك اللغات المنقرضة أو الميتة.
لا تنتشر هذه اللغات عشوائياً على ظهر الأرض، فعلى سبيل المثال توجد لغات أكثر بكثير في المناطق الاستوائية منها بالمناطق المعتدلة، وتعد الجزيرة الاستوائية في غينيا الجديدة موطناً لأكثر من 900 لغة، أي أكثر 20 مرة من روسيا التي لديها 105 لغات أصلية فقط، وحتى في المناطق المدارية
لدينا قليل من الإجابات الواضحة عن هذا السؤال الأساسي حول كيفية التواصل البشري، فبينما يفترض أغلب الناس أن هذا التنوع اللغوي يعود للتاريخ والاختلافات الثقافية، وبسبب الجبال والمحيطات التي تقسم السكان أو حتى الصراعات القديمة التي جعلت بعض الشعوب لا يتحدث بعضها لبعض!، لكن فريقاً أكاديمياً مكوناً من 6 باحثين، من تخصصات وبلدان مختلفة، قام بمراجعة الدراسات السابقة المتاحة فلم يجد سوى 10 دراسات سابقة فقط تتناول هذا الموضوع رغم أهميته.
ودرست هذه الجهود السابقة الترابط بين المتغيرات البيئية والاجتماعية والجغرافية مع عدد اللغات الموجودة في موقع معين، وتفاوتت النتائج من دراسة لآخرى ولم تظهر أنماط واضحة، كما واجهت الدراسات العديد من التحديات المنهجية، خاصة تبنَيها النظرية الإحصائية القديمة، ونحن الآن نعتقد أن الارتباط لا يساوي السببية بالضرورة.
بالتأكيد، لا يرتبط انتشار اللغات بخطوط الطول والعرض الوهمية (رغم أن عدد اللغات المستخدمة تزيد كلما اقتربنا بخطوط الاستواء).
وضعت كلير بويرن، وهي لغوية من جامعة ييل الأميركية، خريطة تبين تنوع لغات السكان الأصليين في أستراليا قبل الاتصال بالأوروبيين (يقدر عددها بـ406 لغات محلية أسترالية)، ووجدت أن اللغات تزداد في الشمال وعلى طول السواحل مع عدد أقل في الصحراء والمناطق الداخلية.
وبتطبيق النموذج على النمط الجغرافي للتنوع اللغوي، وجدنا أنه يضع 3 افتراضات أساسية فقط؛ وهي أن السكان يتحركون لملء الفراغات المتاحة عندما لا يعيش أي شخص آخر، والافتراض الثاني أن عدم هطول الأمطار سيقلل من عدد الناس الذين يمكن أن يعيشوا في مكان ما، والافتراض الأخير أن حجم السكان الحالي هو الحجم المثالي.
وحينما تم استخدام هذا النموذج لمحاكاة التنوع اللغوي في أستراليا، أنتج النموذج عدداً لا يُصدق يكاد يطابق عدد لغات أستراليا الفعلي (407 يختلف برقم واحد فقط عن الرقم الحقيقي)
ومما لا شك فيه أن مجموعة واسعة من العوامل والعمليات الاجتماعية والبيئية ساهمت في أنماط التنوع اللغوي التي نراها بجميع أنحاء العالم. وفي بعض الأماكن، قد تكون التضاريس أو المناخ أو توافر الموارد الطبيعية الرئيسة أكثر أهمية.
وفي حالات أخرى، قد يؤدي تاريخ الحرب أو التنظيم السياسي أو استراتيجيات الإعاشة التي تتبعها مختلف الفئات دوراً أكبر في تشكيل حدود المجموعات وأنماط التنوع اللغوي. ما أنشأناه الآن، هو قالب لطريقة يمكن استخدامها لكشف العوامل المختلفة في العمل بكل موقع.
وقد لعب التنوع اللغوي دوراً رئيساً في تشكيل تفاعلات المجموعات البشرية وتاريخ جنسنا، ومع ذلك فإننا نعرف القليل عن العوامل التي تشكل هذا التنوع. ونأمل أن يصبح علماء آخرون مهتمين بجغرافيا التنوع اللغوي.
المصدر: هافينغتون بوست