مساء الأحد الماضي 21 شباط/ فبراير، كانت حملة التهويل المساندة لـ «مملكة الخير» في بداياتها اللطيفة، ولمّا تأخذ الأبعاد التراجيكوميديّة التي شهدناها خلال الأيّام الأخيرة. كانت السمفونيّة ما زالت عند الحركة الأولى: بيان «14 آذار» المسموم المحشو بالاختزالات والتحليلات التقريبيّة والشعارات الجوفاء الذي تلاه السنيورة بنبض عال من «بيت الوسط». ماذا فعلتم بأهل الخير الذين تصدقوا علينا واحتضنوا «خيرة شبابنا» أيّها «المتطرفون»؟
صاح نبيّ الاعتدال والليبراليّة، بصوته المتهدّج. في الليلة نفسها، وقّعت راشيل كرم تقريراً مثيراً في نشرة الأخبار على «الجديد»، يذكّر أن قرار وقف «صفقة المليارات الثلاثة» صدر عن الرياض قبل أسابيع من الدوشة التي أطلقتها «أبواق آل سعود» في بيروت، تارة بحجّة الامتعاض من موقف وزير الخارجيّة اللبناني جبران بارسيل (الذي راعى السعوديّة أيّما مراعاة على فكرة)، وطوراً كردّ فعل على خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله (الذي قزّع نظام «التنابل» أيّما تقزيع).
الحريري العائد على حصانه الأبيض، رافعاً راية «العروبة»، استقبل بفتور شديد من قبل جمهوره، وقد سرق منه وزير المحاور الطرابلسيّة شعلة «الثورة». ومع ذلك، راح يردد هنا وهناك ببلاغته المعهودة وفصاحته «المجولقة»: «لبنان لن يكون ولاية إيرانيّة». أوكي، حاضر! ليكن ولاية سعودو ـــ إسرائيليّة إذاً. تقرير راشيل كرم يحيل، إضافة لبيان لوزير الداخليّة وتصريح لوزير الدفاع، إلى مقالة منشورة في «لو موند» الفرنسيّة في ١٩ يناير، تؤكّد أن الصفقة (التي نسمع عنها من قرن ونيّف) ألغيت منذ أواسط يناير على الأقل، وأن البرنس محمد بن سلمان زعلان من الوسيط ODAS ويريد أن يركّب شبكات جديدة، وأن الضرر الفعلي من القرار سيلحق بالشركات الفرنسيّة المعنية بالصفقة، وفي كلّ الأحوال أن لائحة الأسلحة التي كانت مملكة الخير ستتصدّق بها على جيشنا، ناقشها الفرنسيس وآل سعود بالتفصيل المملّ، مع… «إسرائيل».
للأسف، لم يصغ أحد من الغيارى على السلم الأهلي، تلك الليلة، إلى راشيل المعنيّة بتغليب «الحقيقة» على «التجاذبات السياسيّة والحسابات الضيّقة»… على كلّ حال، سرعان ما نسي الجميع تلك الاسلحة التي تطلق للخلف، لنشهد طوال الأسبوع حركة تصعيد «كريشندو» للموّال السياسي الجديد الذي تعمم فجأة على اعلاميين ومحطات وصحف، ورجال اعمال وسياسيين. صار حديث الساعة عن عريضة اعتذار قوميّة من مملكة «العمق العربي» والتنوير والنهضة طبعاً.
ما هذا النكران للجميل؟ صرخ أبو فاعور وزهرا والحكيم وسياديون آخرون. أي جميل؟ يا أخي، اللبنانيّون المهاجرون يشقون ويربحون خبزهم بعرق جبينهم، من دون منّة من أحد، والبلدان المضيفة هي التي تستفيد من تعبهم. أما أصحاب الرساميل الخليجيّة المستثمرة في «اقتصاد الكاباريه» الذي بلانا به رفيق الحريري، فيستفيدون هم وسماسرتهم من اقتصادنا وليس العكس. وليس الشعب اللبناني هو المستفيد بكل الاحوال! المهمّ، توقّف البكاء على «هبة» لم تكن ستصلنا أصلاً، ليصبح التركيز على «الكارثة الاقتصاديّة» التي سيشهدها لبنان بسبب غضب فرسان «آل سعود». وإذا بنا أمام مناحة اعلاميّة ضخمة على كل هؤلاء اللبنانيين الذين سيُرحّلون من الخليج. حاكم مصرف لبنان إضطر إلى التدخّل شخصياً لتبديد الخوف. الندّابون استبَقوا قرار آل سعود، كأنّهم يعرفونه. بل راحوا يزايدون على أسيادهم، في توقّع أشكال القصاص، وعدد الضحايا. أرأيتم نتيجة التدخل في صراعات المنطقة؟ لم لا تبقون مثل «سعد العروبة» وشركاه على «الحياد»… من سوريا إلى اليمن؟ ضعوا ثقتهم في مملكة الخير، فهي حامية العروبة، ومصالح العرب!.
هكذا أدخلَنا بعض الاعلام في دوّامة من التضليل والاذلال والتهويل والابتزاز والتهديد، ناهيك بالتسوّل البائس على طريقة إلياس الديري. كان يجب أن تتفرّجوا على لينا دوغان ناصر على «المستقبل»، مع تركيز خاص على حركات الذقن والرقبة واليد اليمنى: ٦٠٠ ألف لبناني في الخليج ، يحوّلون ٦ مليارات سنويّاً… كلّهم سيعود في الأشهر المقبلة. هل بين هؤلاء العائدين موظفو «سعودي أوجيه» أيضاً، أم أن لضحايا «سعد العروبة» حسبة أخرى على حدة؟ «اللبنانيون أمام لحظة حقيقة ـــ تخلص راقصة «الكاتاكالي» ـــ وعليهم أن يقرّروا: هل يفضلون هانوي أم هونكونغ؟». معادلة تقول الكثير طبعاً! باختصار كان لبنان جنّة ونعيماً، وقد خربتموه يا شباب.
«الآتي أعظم» لعلعت مجاهدة «الفيوتشر». «الآتي أعظم» زأر محمد شقير على تلفزيون آل المرّ. مسؤول هيئة اقتصادية رصينة مثل «غرفة التجارة والصناعة» يدخل لعبة التهويل بصفته داعية لدى آل سعود. «نعم هناك ترحيل!» يبشّرنا أمام الكاميرا. لديك معلومات؟ تسأل المذيعة. لا جواب. «إذا لم تعتذر الحكومة، وتتوقّف «بعض القوى» عندنا عن تدريب الحوثيين، فستكتسد محاصيلنا، وتتكدس بضائعنا، ويعود أبناؤنا عاطلين عن العمل، وسيعرف لبنان المجاعة». كتّر خيرك!.
إنّه انتقام «التنابل». لقد أفلتوا أبواقهم في ما يشبه حرباً «شاملة». جندوا كل ما يملكونه في لبنان من شخصيات وفعاليات، لينذرونا بالويل والثبور وعظائم الامور. جزء أساسي من الاعلام اللبناني استمرأ دور «كاساندرا»، نبيّة الشؤم الاغريقية. إسمعهم يتلذذون بفكرة ترحيل اللبنانيين. لم ينتبه أحد أن في هذا الخطاب اعترافاً ضمنياً بأن «المكرمات» المزعومة هدفها أن تشتري صمتنا وتواطؤنا، وأن تعطّل ضمائرنا وحريتنا وتصادر مواقفنا. لم ينتبه هؤلاء الغربان إلى أنّهم، بنعيقهم البشع، يستبقون ويقبلون ويبرّرون قرارات همجيّة جائرة لدولة يفترض أنّها تحترم القوانين والاعراف والمواثيق. بل تراهم يتمنون الاقتصاص ويحرّضون عليه؟ لم يسأل أحد نفسه: بأي حق تعاقب السعوديّة بلداً كاملاً؟ أياً كان الموقف من سياسة قوّة كحزب الله، هل يبرر ذلك الانتقام من شعب بأسره، من اقتصاد وطني، من أفراد أبرياء لم يرتكبوا أي خطأ، لا نعرف حتى آراءهم؟ بعد الترغيب، جاء دور الترهيب. إن حملة الابتزاز السياسي، بذريعة صيانة مصالح لبنان واللبنانيين، تذكّرنا بما نعرفه: الاعلام المرتزق لا ينتج ديمقراطيّة، والسماسرة والمقاولون لا يصنعون ازدهاراً اقتصادياً، والاقتصاد الطفيلي التابع لا يصنع سيادة وطنيّة.