ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
“عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيَّة أمير المؤمنين، الَّتي آثر أن يودعها أهل بيته وأصحابه قبل أن يغادر الدنيا.. والوصيَّة يضع فيها الموصي الأمور التي تهمه، وتشغل باله، ويخشى أن تضيع ولا يعمل بها، فأي الأمور هي الَّتي كانت تشغل بال أمير المؤمنين وهو على فراش الموت؟ لقد توجه في البداية إلى ولديه الحسن والحسين، فقال: “أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين، بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت رسول الله يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام. الله الله في الأيتام، لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم. والله والله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم. والله الله في القرآن، فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم. والله الله في الصلاة، فإنها عماد دينكم. والله الله في بيت ربكم، فلا يخلو منكم ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا.. والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.. ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق والحسد”. ثم يقول: “لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إن أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور”. هذه هي وصية أمير المؤمنين لنا، فلنستوص بها. والالتزام بها يؤكد حقيقة حبنا له، فهو لن يكتفي منا بمشاعرنا وعواطفنا، بل يريد العمل والسلوك أيضا. وكما قال الإمام الباقر: “أيكفي الرجل أن يقول أحب عليا وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعالا؟ ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته، ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعملهم بطاعته”. ولذلك، علينا أن نتقي الله لما عنده. ومتى فعلنا ذلك، سنكون أكثر وعيا وقدرة على مواجهة التحديات”.
وقال: “البداية من القانون الانتخابي الَّذي أبصر النور بعد طول تسويف من القوى السياسية. فقد كان من الممكن أن يتم الاتفاق عليه قبل هذا الوقت بكثير، مما يوفر على اللبنانيين تداعيات الانتظار على كل الصعد، حيث تأكدت الحقيقة التي كنا نقولها بأن لا حل في لبنان إلا بالتوافق، ولكن مع الأسف، هو التوافق على الحصص، بعدما أتقنت أغلب القوى السياسية التعامل مع اللبنانيين على قاعدة اللعب على حافة الهاوية، حتى يسهل عليها تمرير ما تريد تمريره، بحيث يصبح أي حل، حتى لو كان أسوأ الحلول، مطلبا للبنانيين”.
أضاف: “لقد أصبح واضحا أن هذا القانون ما كان ليبث لولا ثقة القوى السياسية بأنه لن يخسرها مواقعها، وهي إن خسرت في موقع، فستربح في موقع آخر، فالقانون لم يكن لسواد عيون اللبنانيين، أو لسواد عيون الطوائف، بل لسواد عيون هذه القوى، وتضخيما لمواقعها، لكن هذا لا يعني أن لا إيجابيَّة فيه، بعدما دفن القانون الأكثري الَّذي حكم لبنان منذ عشرينيات القرن الماضي، والذي حال دون تمثيل حقيقي للبنانيين، وأدخل لبنان في عصر النسبية التي لطالما دعونا إليها.. ولكننا في الوقت نفسه، نسجل شوائب عدة عليه، في تقسيمه للدوائر بطريقة راعى فيها الاعتبارات الطائفية والمذهبية التي تؤمن مصلحة القوى السياسية، وكرس ما أفرزته الحروب والصراعات اللبنانية، فهو لم يخضع لمعايير واحدة، أو يتقدَّم خطوة كنا ننتظرها في اتجاه الوطن الجامع، وهذا يجعل لبنان في مهب الصراعات التي تلف المنطقة، والتي تأخذ طابعا طائفيا ومذهبيا، ويبقي لبنان شركة طوائف، بدلا من أن يكون وطنا ينصهر فيه الجميع”.
ودعا “كل القوى الحريصة على هذا البلد، أن لا تتوقف عن التأسيس على إيجابيات هذا القانون، وأن تستمر في العمل لإزالة كل الشوائب فيه، لتخرج بقانون يعتمد على النسبية الصحيحة لا المشوهة، بعيدا عن كل الاعتبارات الطائفية والمصالح السياسية الضيقة، وأن لا تخلد إلى ما يقال من أن طبيعة الواقع اللبناني الطائفي تفرض مثل هذا القانون”.
وتابع: “ننتقل إلى الأزمة المستمرة بين قطر وبعض دول الخليج، التي ساهمت وتساهم في مزيد من التشظي والانقسام في العالم العربي والإسلامي، وهي بالطبع ستؤدي إلى تدخل متزايد للدول الكبرى في المنطقة، لتعزيز إطباقها على دول الخليج، وللمزيد من الابتزاز المالي وصفقات السلاح.. كما رأينا ذلك مؤخرا، وبكل وضوح”.
وقال: “نحن أمام ما يجري، ندعو إلى الإسراع في إيجاد حلول تنهي هذا الشقاق، وتصوب مسار هذه الدول التي طغت على دورها سياسات خاطئة في هذه القضية وغيرها من قضايا المنطقة، كما ندعو إلى إيقاف الحصار الذي يتناقض مع القيم الإسلامية والإنسانية.. وهو ما نرفضه في كل الحروب والأزمات السياسية، فلا يوجد مبرر للضغط على سياسات الدول، من خلال الضغط على لقمة عيش شعوبها والناس الذين قد لا يكون لهم دور في أي من السياسات القائمة حولهم”.
وختم: “وأخيرا، لا بدَّ لنا في ظلِّ تزايد حجم الجريمة في لبنان، مع ما لها من آثار في أمن المواطنين وحياتهم واستقرارهم، من العمل الجاد على الصعد التربوية والأخلاقية والدينية، وعلى المستوى الأمني، بتنظيم رخص السلاح، للوقاية من هذه الجرائم. ولا بد أيضا من أن يواكب ذلك قضاء فاعل ومستقل، يحكم بكل العقوبات الرادعة والحاسمة، التي لا تخضع للتسويات وللمداخلات، بل تجعل المجرم يحسب ألف حساب قبل أن يقدم على جريمته.. {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب..}. ولذلك، فإننا نقف مع تحرك الأهالي الَّذين اكتووا بنار هذه الجرائم، وفجعوا بأولادهم وأقاربهم، وندعو إلى الوقوف معهم، حتى لا نكون أمام جرائم جديدة، أصبحت تجري، مع الأسف، بكل برودة أعصاب، وعلى الهواء مباشرة”.
المصدر: الوكالة الوطنية للاعلام