ليست المسألة قرصنة إلكترونية على وكالة الأنباء القطرية، وتأويل أمير قطر تميم بن حمد ما لم يقله كما برَّر البعض، طالما أن كلمته وردت ضمن مقتطفات إخبارية على شاشة التلفزيون القطري، بعدما سحبتها الوكالة عن موقعها الإلكتروني وتنصَّلت منها.
ما حصل قد حصل، وتصاعد الجنون السعودي نتيجة واقعية أمير قطر في اعتبار إيران أنها “تُمثل ثقلا إقليميا وإسلاميا لا يمكن تجاهله..، وأن بلاده تحتفظ بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة وإيران في وقت واحد، وأن حزب الله اللبناني هو مقاومة”.
الجنون السعودي على قطر ليس بجديد، وهو متكرر ومتوالي عبر السنوات، ولا يستند فقط على عدم الودّ التاريخي بين البلدين نتيجة نزاعات حدودية، ولا على مواقف الطرفين المتعارضة في دورهما الإقليمي أو ضمن ما سُمِّي “الربيع العربي”، ولا في “القشَّة التي قصمت ظهر البعير”، التي خلَّفها ترامب وراءه بوكالة على بياض للسعودية في الخليج، مقابل شيك سعودي ليس على بياض، ويتضمَّن أكثر من 460 مليار دولار من الصفقات التي قطفها ترامب من “ضرع البقرة الحلوب”، بل إن الخلاف الأساسي هو ديني- سياسي، ويعود الى بدايات انطلاق الوهَّابية اللصيقة بعائلة آل سعود وفشلِهم في تسويقها خارج مملكتهم، الى أن جاءت ولادة “الأخوان المسلمين” كحركة إسلامية سياسية، “اعتنقها” البعض ممَّن يرغب بمقارعة الفكر الوهَّابي والهيمنة السياسية للمملكة العائلية، التي امتطت صهوة الوهَّابية ولا تزال، لحماية عرش عائلي، ولترهيب العالم الإسلامي السُنِّي بإسم الدين، خاصة أنها تحتضن الأماكن المقدسة وقِبلة حجّ المسلمين، إضافة الى ما تمتلكه من مقدَّرات مالية تحكُم بها قرارات بعض الدول الإسلامية والعربية الفقيرة، لدرجة أنها جمعت مؤخراً نحو 55 دولة لحضور “مهرجان ترامب”.
لكن ما يدعو للسخرية ضمن مسلسل الجنون السعودي هذا، الإستفاقة المفاجئة التي كان بطلها منذ أيام مفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ، حين وقَّع مع عائلته على بيان ينفي فيه نسبة أمير قطر الى جدهم محمد بن عبد الوهاب.
التهمة الأكبر، الموجَّهة على الدوام من السعودية الى قطر، هي احتضان الأخيرة لحركة “الأخوان المسلمين”، علماً بأن هذه الحركة ليست بعيدة عن الفكر الوهَّابي، لكنها تتميَّز عنه بسرعة الإنتشار، لأنها تمرُّد على الإحتكار العائلي السعودي للفكر التكفيري، وباتت بعض الدول الإسلامية وفي طليعتها مصر وتركيا وقطر تجِد في انتهاج فكر الأخوان انتفاضة سيادية لكل دولة على المملكة العائلية، وتمرُّد قطري مُستدام على “وليّ الأمر” السعودي.
والمشكلة معقَّدة بين قطر والسعودية، ما دامت الإمارة الصغيرة تستقوي على الجارة الكبيرة بأن لديها أكبر قاعدة جوية أميركية في الخارج، ولن يُبدي الطرفان استعداداً لتقديم تنازلات، خاصة أن قطر كانت ترى في السعودية الدولة التي تقمعها في سياستها الدولية والإقليمية، ولم يكن أمامها إلا أن تعمل على توفير عناصر الدفاع عن النفس، بما فيها احتواء ودعم تنظيمات أصولية مثل الأخوان المسلمين وما تفرَّع عنها في العالمين العربي والإسلامي، لتكون خنجراً تلوِّح به الدوحة أمام كل من يحاول الإقلال من شأنها ودورها في المنطقة، وقامت قطر فعلاً بأكبر استعراض عضلات إقليمي بوجه السعودية خلال السنوات الأخيرة عبر دعم الأخوان المسلمين، وإيواء قياداتهم السورية والمصرية والخليجية بما فيها السعودية منها، وقدمت المساعدات المادية والمعنوية والأسلحة.
وإذا كانت تركيا متمسِّكة بالأخوان المسلمين، لأن حركتهم التي أسَّسها حسن البنَّا في مصر قد قامت بهدف استعادة دولة الخلافة بعد انهيار الخلافة العثمانية، وإذا كانت مصر تستخدم الأخوان لمواجهة أي حُكم مدني لا يستند الى أحكام الشريعة، فإن لقطر مبرراتها المُغايرة: مواجهة الوهَّابية السعودية بأي تنظيم إسلامي سياسي آخر لكبح جموح الهيمنة لدى آل سعود واتقاء شرّ مجاورتهم عبر المناورة بالآخرين، مع إعتراف قطري شبيه بالموقف العُماني لناحية الإعتراف بأهمية ودور الجارة إيران، وعدم معاداتها دون وجه حق إرضاء للسعودية كما تفعل دولة الإمارات، التي أورثتها السعودية الحقد على الأخوان بمُعزلٍ عن فكرهم، وذلك إرضاء للمملكة، وغدا الأخوان المسلمون وما يتفرَّع عنهم من حركات القاعدة وداعش والنصرة هم وحدهم الإرهابيون، وتضعهم السعودية في نفس الخانة مع حركات المقاومة التي تواجه إسرائيل وتواجه الإرهاب، ووحدها الوهَّابية هي التي تستولد حمائم السلام وتفتتح مراكز حوار الحضارات ومكافحة التطرُّف، وتشتري عضوية لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، حقوقٌ محفورة على حدِّ السيف طالما المملكة قادرة على شراء العالم بالصفقات وأموال النفط…
المصدر: موقع المنار