بحرٌ بشريّ، تموج على أكفه جثامين شهداء تُحلِّق أرواحهم عالياً وجراحُهم تُزهر طُهراً يواسي جراح قلوب ذويهم بعد هذا الفراق. فراقٌ يخفف وطأة الألم حين كان سببه الشهادة، ولكن يبقى القلب الإنساني يتساءل “بأي ذنبٍ غُدروا”.
ها هم اثنان وخمسون شهيداً من ضحايا قافلة كفريا والفوعة، المغدورين في منطقة الراشدين بالتفجير الإرهابي، وصلوا أخيراً إلى تراب يشعّ طهارةً وقدسيةً في منطقة السيدة زينب (ع) قرب دمشق، وبالقرب من العاصمة كان تشيِيعهم بعد وصولهم من حلب، أشبه بشعاع ينير للبشرية طريق الحق ويرشد إلى درب الحقيقة.
اثنان وخمسون قمراً زفّهم ذووهم وأهلهم من السوريين إلى مثواهم الأخير بعد الصلاة عليهم في المقام الشريف إلى جوار العقيلة (ع)، لم يبتعدوا عنها، بل وُوروا ثراهم بالقرب من جنابها الشريف في مقبرة شهداء السيدة زينب (ع).
فبعد صلاة ظهر اليوم الأربعاء، أقيمت مراسم صلاة الجنازة عليهم، ووسط وداع يجعل للقلب مصبّاً من الأسى على مشهد دموع الأهالي المفارقين، وفخراً يرفع الجبين على حفاوة التشييع المُستَحَق والمثوى الأخير المبتغى، تناقلت الأكف النعوش مصغية إلى صدى المجزرة.
الجنازة جابت الشوارع الرئيسية بمنطقة السيدة زينب (ع)، حيث غصّت الشوارع بآلاف المشاركين في الوداع الأخير للشهداء القادمين من حصار بلدتي كفريا والفوعة.
جميع من يقطن في منطقة السيدة زينب (ع)، شارك في التشييع، وكثير من المواطنين وصلوا من العاصمة دمشق، ليشكلوا بانوراما وطنية تجمعها وحدةُ العلم السوري الذي لفّ نعوش الشهداء اليوم، فالمواطنون أصرّوا على الحضور ومشاركة الأهالي بدموعهم، وتخفيف ألم جراح الفَقد المرير. إضافة إلى جميع أهالي كفريا والفوعة الذين وصلوا إلى منطقة السيدة زينب (ع) حضروا بكل ما فيهم من أسى وقهر، ليزيد اغتيال أبنائهم من ألم الإجرام في حقهم أثناء الحصار الجائر، ولكن صمودهم على مدار سنوات ثلاث أمام أعتى الهجمات التكفيرية، زاد قلوبهم ثباتاً.
الأمهات لا يعرفن كيف يكفكفن الدموع، ولا قدرة لهن على احتمال قوة صدمة الفاجعة الكبرى هذه، حتى الآباء انسكبت من عيونهم مأساةُ غدر التكفيريين، وما زالوا لا يعرفون بأي ذنب يودعون أبناءهم مقهورين، فدمع الرجال يحفر في الصخر طريقاً يدل على حجم المصيبة.
خفيفة تلك النعوش التي تحمل أثقل الأعباء، إنها أعباء الاغتيال المحرّم، وفقد الطفولة في زهوة مراحلها، فأجساد الأطفال الشهداء لا تزن الكثير، لكن قتلهم بهذه الطريقة أتى على القلوب أثقل من الجبال.
ومن أكثر المشاهد لوعة وقسوة، أطفال يبكون أخاً أو أختاً، أو يرجون عدم ذهاب أمهم إلى مكان لا عودة منه. ومشهد أطفال آخرين احتاروا ماذا يفعلون لعدم إدراكهم حجم الواقعة، فسلموا الأمر دون أن يشعروا إلى براءتهم، يبكون ويحاولون انتظار أخوتهم أن يعودوا مما قد يعتقد الطفل أنه لعبة الموت، في حين انحفرت جراح الشهداء مشهداً راسخاً في ذاكرتهم البريئة.
إلى جانب هذا كله ومشهد التشييع المهيب، بقي في النفوس غصة أكبر، تمكن بمصير مجهول لمفقودين ما زالت أخبارهم خلف غياهب ظلام المسلحين التكفيريين، في الشمال السوري.
تشديدات أمنية اتخذتها الحكومة السورية للحفاظ على أمان مراسم التشييع، وحذر كبير من قبل الجهات الأمنية، وإغلاق عدد من الشوارع الفرعية، كان من الإجراءات المتخذة، أما وجوه المشاركين لا تشي بأي مبالاة تجاه الأمن، فهمهم الوحيد أن يشيعوا الشهداء بما يليق بهم، وفعلا تم التشييع دون أي حوادث قد تزيد من أسى الواقعة.
على تخوم الخلاص، وعلى بعد ساعات قليلة من التحرر بعد ذلك الحصار المقيت، كان على عدد كبير من المحررين الذين صمدوا في كفريا والفوعة أن يكملوا طريقهم نحو الحرية الأبدية، بعد حصارهم سنوات من الألم بين مستنقعات فاضت بالإرهاب، إرهاب تكفيري حاقد على الإنسانية جمعاء، فما كان إلا أن غدرَ الظالمُ بالمظلوم.
المصدر: موقع المنار