نصف الشعب التركي قال “لا” للنظام الرئاسي، وربما كان من الأفضل للرئيس رجب طيب أردوغان إعفاء نفسه من الحَرَج، وعدم اللجوء الى الشعب لإجراء تعديل دستوري بهدف تحويل نظام الحُكم من برلماني الى رئاسي، لأن النتيجة جاءت لتقسِم شعبه نصفين، وبدأت طلائع التظاهرات والفوضى من المعترضين أين منها أحداث ساحة “تقسيم”، عندما تتفلَّت الشوارع لاحقاً فور رفع حالة الطوارىء بما فيها حظر التظاهرات، لأن الأمور سائرة الى التصعيد على مستوى أحزاب المعارضة وعلى المستوى الشعبي الذي قال 49% منه تلك الـ “لا” المدوِّية للحكم الآحادي الذي يحلم به أردوغان.
اللجوء الى الإستفتاء الشعبي، جاء بعد تأكد الرئيس التركي إستحالة تعديل الدستور عبر البرلمان، لأن “حزب العدالة والتنمية” الحاكم كان بحاجة الى تحالفات مع تكتلات برلمانية أخرى لتمرير التعديل، وجاء رفض نواب المعارضة وأبرزهم “حزب الشعب الجمهوري” قاسياً، واتَّهم هذا الحزب أردوغان، أنه أحكم سيطرته سابقاً على مؤسسة الجيش التي كانت السلطة الأعلى في البلاد، وكانت الحارس المؤتمن على الإرث العلماني لمطفى كمال أتاتورك، وأخضعها أردوغان لسلطة مجلس الوزراء، ويستكمل خططه لتعزيز سلطاته الفردية المطلقة على حساب الديموقراطية التي يرمز إليها البرلمان.
فور إعلان النتائج، سارعت المعارضة ممثلة بحزب الشعب الجمهوري إلى الرفض، مدفوعة بالتقارب في النتيجة بين المعسكرين “نعم” و “لا”، ولجأت إلى الطعن فيها، لكن الهيئة العليا للانتخابات ردت الطعن يوم الأربعاء، الأمر الذي يطرح سؤالاً حول الخيارات المتاحة الآن أمام المعارضة، التي هددت بسحب أعضائها من البرلمان أيضا، مع بحث إمكانية لجوء حزب الشعب الجمهوري بدعم من أحزاب مُعَارِضة أخرى لخطوات تصعيدية، كتهديده بالذهاب إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، متذرعاً بأن ما حصل في إدارة عملية الاستفتاء يُعتبر انتهاكا للحريات والحقوق، واستبعد المحلل السياسي سعيد الحاج أن تنتهي حالة الجدل والاستقطاب بعد إقرار النتائج، التي إنتقدها كلٌ من أردال أكسونجر، الأمين العام المساعد لحزب الشعب الجمهوري، الذي طعن بنتائج نحو 37 في المئة من صناديق الاقتراع، ومن ناحيته، أكد حزب الشعوب الديموقراطي المعارض عبر تغريدة، أنه سيطعن في صحة البطاقات في “ثلثي” صناديق الاقتراع، مضيفاً أن “المعطيات المتوفرة تفيد بأن تلاعباً قد حصل يوازي ثلاث أو أربع نقاط مئوية”.
وفي الوقت الذي هنأ فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرئيس التركي لنجاحه في إقامة نظام حُكم شبيه بالنظام الأميركي، فإن اختلاف النظامين قياساً لصلاحيات الكونغرس الأميركي بمجلسي الشيوخ والنواب، والصلاحيات المُنعدمة للبرلمان والحكومة في تركيا نتيجة هيمنة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، فإن الرسالة جاءت من الاتحاد الأوروبي، تُطالب السلطات التركية بإجراء “تحقيقات شفافة” في مزاعم المخالفات التي شابت عملية الاستفتاء، مع ما يَكِنَّه الإتحاد من كراهية لأردوغان الذي يُهدد أوروبا يومياً بفتح باب تدفُّق اللاجئين من تركيا الى أوروبا إذا لم تستجب لشروطه المادية، وإذا استمرت في رفض فتح مجال انتقال الأتراك إليها دون تأشيرة، خاصة بعد أن أعلن رئيس الوزراء الهولندي صراحة، أن تركيا لا يحقّ لها بعد اليوم أن تحلم بالإنضمام الى الإتحاد الأوروبي نتيجة تصرفات أردوغان ومنطق الترهيب الذي يُخاطب به الحكومات الأوروبية.
وبالعودة الى الداخل التركي، فإن أرجحية الـ “لا” التي طَغَت على الـ “نعم” في نتائج الإستفتاء ضمن العاصمة أنقرة والمدينتين الأبرزين إزمير واسطمبول – خاصة الجزء الأوروبي منها – رسالة لأردوغان الفائز بنسبة 51%، أنه نصف سُلطان على شعبٍ تركي استخدم ضدَّه أردوغان كل وسائل القمع العثماني منذ فشل الإنقلاب في شهر تموز/ يوليو الماضي، وإذا كان جنوب شرقي تركيا ذا الغالبية الكردية، قد صوَّت بغالبية مقبولة لصالح النظام الرئاسي، فلأن الأكراد المدنيين يُعانون من قمعٍ بات خبزهم اليومي على أيدي الشرطة التركية ويدفعون ثمن مقاومة حزب العمال الكردستاني في الجنوب التركي على الحدود مع سوريا، وبين التهديد العسكري الكردي من الجنوب وخطر داعش، والمُعارضة السياسية الداخلية في تركيا مقرونةً بحقد جماعة فتح الله غولن على ظلم أردوغان، فإن “النصف سلطان” لا تنتظره أيام عسل في قصره المُنيف، ومعنويات الجيش والشرطة التي داسها أردوغان ما زالت مرتفعة لحماية تركيا ولكن ليس لحماية نظام سُلطاني سيكون أول دافعي الأثمان في طريق عودة الإرهابيين من سوريا والعراق، والعرش الأعرج لن يصمُد طويلاً ….