نص الخطبة
كان علي(ع) من أشد المحاربين للفساد بكل صوره وأشكاله ومظاهره الادارية والاجتماعية والأخلاقية والمالية وغيرها، وسأقتصر في هذه الخطبة على الحديث عن كيفية محاربة علي(ع) للفساد المالي تحديداً، فقد كان(ع) من أشد المحاربين للفساد المالي، الى الحد الذي توعد فيه الفاسدين باسترجاع ما نهبوه من مال المسلمين حتى ولو كانت قد تزوجت به النساء.
فعندما تولى علي(ع) الحكم وقف موقفاً حاسماً من الثروات التي تكوّنت في أيام عثمان بأسباب غير مشروعة.
وقد أعلن في الخُطب الأولى التي استهل بها حكمه مصادرة جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة لطبقة الإرستوقراطيين، كما أعلن أنّه سيتّبع مبدأ المساواة في العطاء، فقال: « أيّها الناس، إنّي رجل منكم، لي ما لكم وعليّ ما عليكم، وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم، ومنفّذ فيكم ما أمر به، ألا وإنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال؛ فإنّ الحقّ لا يبطله شيء، ولَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ؛ فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ ».
وبقدر ما كانت هذه السياسة مصدر فرح للطّبقة المستضعفة الفقيرة التي كانت تعاني من الظلم الناتج عن الفساد الاداري والمالي، كانت أيضاً صفعة لطبقة الإرستوقراطيين من قريش التي كانت تستعلي على الناس وتجعل لنفسها امتيازات خاصة، ففي عهد الحكومات السابقة ما كانت تُسئل عن امتيازاتها ولا عن أموالها ولا من أين لك هذا! أما في عهد علي بن أبي طالب فهناك مساءلة، فليس لها بعد علي(ع) أن تحوز الأموال العظيمة دون أن تُسئل: من أين لك هذا؟ وليس لها في ظل حكمه لها أن تستعلي وتستبد، وتفرض على الناس في ظلّ الإسلام سياسات جاهليّة تميز بين الناس في العطاء على اساس العرق واللون والانتماء والولاء وما شابه ذلك.
هكذا كان موقف علي من السياسات المالية في العهود السابقة والحكومات السابقة فهو اتخذ اجراءات تقضي باستعادة كل الاموال المنهوبة أينما وجدت.
أما في حكومته فقد تشدد امير المؤمنين في مبدأ الالتزام بالقانون ومحاربة الفساد المالي بدرجة كبيرة، بل إنه كانت لديه حساسية مفرطة ضد الفساد والاختلاسات والتعديات والتجاوزات القانونية، وكان يتابع الولاة والمسؤولين في الدولة ويقف عند أدنى شبهة مالية ويحقق فيها وينزل أشد العقوبات بالمرتكبين مهما علا شأنهم وومهما كانت مواقعهم ومناصبهم ومسؤوليالتهم ، فلم يتهاون أو يتسامح أو يغض النظر عن أي مختلس أو عن أي مسؤول كانت تدور حوله الشبهات حتى لو كان من كبار رجالات الدولة.
فعندما اطلع على تقارير الفساد المالي الذي ارتكبه أحد ولاته ، كتب اليه كتابا يقول فيه مؤنباً:{ كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً وَتَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ فَاتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّهِ فِيكَ وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ وَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَلَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي فَضَحِّ رُوَيْداً فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ}.
فالتشدد في الموضوع المالي وفي إجراء القانون لدى الحاكم العادل والسلطة العادلة والدولة العادلة يسري على الجميع، حتى على الأبناء والمقربين.
وعندما طلب منه اخوه عقيل ان يساعده من بيت المال فيما ليس له فيه حق، وقد كان في وضع معيشي صعب يرثى له، اجابه الامام عليه السلام بطريقة خاصة بأن أحمى له حديدة بالنار وقربها من يده ليعتبر بها، فضج عقيل من ألمها، فقال له علي(ع): ثكلتك الثواكل، يا عقيل؛ اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه، اتئن من الاذى ولا ائن من لظى.
الحاكم العادل لا يمد يده ولا يسمح لاحد ان يمد يده الى بيت المال عبثا ومن غير حساب وكتاب، او مساءلة او رقيب.
وهكذا كان موقفه عندما جاءه ابن اخيه عبد الله بن جعفر ذات مرة يشكو اليه وضعه المعيشي الصعب وحاجته الى مساعدة فقال: يا امير المؤمنين، لو امرت لي بمعونة او نفقة، فوالله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي، فرد عليه الامام بقوله: {لا والله لا اجد لك شيئا، إلا أن تأمر عمك ان يسرق فيعطيك.
فالامام يرفض رفضا قاطعا ان يمد يده بغير حق الى المال العام بحجة ان من يطلب المعونة هو ابن اخ الحاكم ، وأنه هو الحاكم الاعلى في الدولة فمن الذي سيجرؤ على محاسبته اذا اخذ شيئا من خزينة الدولة ووزعها على خاصته؟.
علي(ع) كان يرفض أن يدخل الرجل الى موقع المسؤولية فقيراً ويخرج مليارديراً، وكان يرفض أن يبني الأثرياء ثرواتهم من جيوب الناس.
كان يتابع مسؤولي الدولة والموظفين متابعة دقيقة ويراقب ويدقق ويحاسب حتى لا يدخل المسؤول فقيرا ويخرج ثرياً، فقد كتب (عليه السلام) إلى بعض عماله وقد بلغه أنه ارتكب خيانة مالية: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَالسَّلَامُ .
وتوعد علي(ع) كل من تسول له نفسه ارتكاب خيانة مالية او عقد صفقات مشبوهة أو مد اليد الى المال العام او التصرف بالمال العام خلاف الضوابط وما هو مقرر، حتى لو كان التصرف تصرفاً صغيراً، فمن كتاب له (عليه السلام) إلى زياد ابن أبيه: وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الْأَمْرِ وَالسَّلَامُ .
اليوم في لبنان يستشري الفساد في مختلف المؤسسات والقطاعات، السرقات والسمسرات وهدر المال العام والرشاوى باتت من سمات النظام اللبناني ومؤسسات الدولة، وليس هناك من يراقب ويحاسب او يسأل..
العجز المُعلن للمزانية العامة مثلاً هو 7000 مليار ليرة لبنانيّة، وجزء من هذا العجز ناتج عن طريقة الإنفاق والهدر والسرقات التي تحصل !
وشواهد ومصاديق الهدر في الدولة كثيرة تبدأ بملف التوظيف ولا تنتهي ببدلات ايجار بعض المباني الرسمية المرتفعة وقد تحدث بعض النواب في جلسات مجلس النواب في الاسبوع الماضي عن ارقام مالية مخيفة على صعيد الهدر والصفقات التي تحصل في الدولة..
هذه الدولة لا رقيب فيها ولا حسيب، ولو كان هناك من يتحمل المسؤولية ويراقب ويدقق ويمنع الهدر والرشا والسمسرات فإن ما يمكن توفيره من كل هذه المفردات كفيل بتمويل سلسلة الرتب والرواتب من دون الحاجة الى فرض ضرائب جديدة واللجوء الى تمويلها من جيوب المواطنين الفقراء.
لو كان هناك محاسبة لما وصلت الدولة الى حالة الاهتراء والفساد والتسيب التي نشهدها في كثير من مؤسساتها ، لكنه مع الأسف لا يوجد محاسبة، لأنّ كل وزير وموظّف محمي بحزبه وطائفته.
الحل هو بالرقابة والمحاسبة الجدية التي تردع الفاسد والمرتكب وكل من تسول له نفسه ارتكاب الخيانة، والحل بالخروج من الطائفية والفئوية والمحسوبيات الحزبية، والوصول الى مرحلة يصبح فيها المسؤولون في الدولة يخافون من المطالبة والمحاسبة والعقاب في حال ارتكاب المخالفة.
الحل بالتفاهم على قانون انتخابي عادل ومنصف يتيح للشعب أن يختار من يمثله اختيارا حقيقيا، وليس هناك من قانون يتيح للناس الاختيار الحقيقي سوى القانون النسبي الذي يحمي الجميع ويحفظ حق الجميع.
بعد الذي جرى خلال اليومين الماضيين لم يعد هناك وقت للتّرف في النّقاش ولا وقت للمماطلة والمراوغة، والجميع اليوم باتوا أمام مسؤولية التوصل خلال المهلة الضيقة المتبقية الى قانون يتيح لكل الأطراف أن يتمثلوا في البرلمان وأن يشاركوا في الحياة السياسية، لأن الفراغ مرفوض ولا يمكن أن نقبل به.
المصدر: موقع المنار