أحسنت الدكتورة زينب صالح الطحّان في اختيارِها دراسة رواية “بدايات” للروائي اللبناني أمين معلوف، وأجادت تقسيم عملِها إلى عناوين، وضَّحت أهميتَه. وقد تضمّنَ موضوعُها معلوماتٍ هامة.
* د. لميس حيدر
ولأنّ أمين معلوف في روايتِه ينقّبُ عن هويتِه العائليةِ في المهجرِ والوطن، أعطَت الكاتبةُ دراستَها عنوانَاً، هو: “الهجرةُ وأزمةُ الهويةِ اللبنانيةِ في روايةِ “بدايات” لأمين معلوف”، فجاءَ العنوانُ منسجماً مع مضمونِ الدراسة.
تكتبُ الباحثةُ عملَها هذا، وتجدُها تحلّلُ بانسيابيةٍ، فتتدفّقُ الأفكارُ طوعاً، غير مستعصيةٍ على المدارك. تدرجُها بأسلوبٍ فيّاضِِ النضجِ، قلَّ نظيرُه. وتتراكمُ المعلوماتُ في الذهنِ، الذي يتماهى مع المعرفةِ المُغْدَقَةِ في البناءِ التحليليِّ المتمكّن، والمتمرِّس، والمتفرِّسِ في عينيك المتنبّهتين، اللتين تزدهران تألّقاً في أثناء متابعتِك المقصود. وكلّما كشفَتِ الجُمَلُ الحُجُبَ عن معالجةٍ لم تكنْ ضمنَ المتوقّعِ، تلهفْتَ لاكتناهِ جودةٍ، تسرُّ لك بهدوءٍ أنّك جاوَرتَها المعرفةَ هنا.
هذا التفاعلُ بين النصِ، والمتتبعِ لحيثياتِه، لا تنقطعُ أواصرُه على مدى صفحاتِ الكتاب، ولا تذبُل، ولا تلين، لذلك كلّما جلْتَ في غورِ العناوين، عَرَفْتَ أنَّ المزيدَ سيكونُ الأغنى، والأوفى، وتبيتُ مرحلةُ خوضِ رحلةِ القراءةِ متعةَ اكتشافِ خصوصيةِ التحليلِ، وعمقِه، ونجابتِه.
يؤسّسُ التاريخُ للأدب، ويبيتُ الأدبُ والدَ هذا التاريخ، فيلتقيانِ، ويندمِجانِ في روايةِ “بدايات”، لذلك أثارَتْ الباحثةُ الدكتورة زينب الطحّان هذا الموضوع، وتحدّثت عن القضايا التاريخية الإنسانية في تلك الرواية من منطلقٍ علمي، ينظرُ إلى المسائلِ المطروحةِ في الرواية من منظارٍ نقديٍ، ينحو منحىً سامياً، لاعتمادِهِ الوضوحَ، وتوخيهِ الموضوعيةَ المتجّهةَ نحو الارتقاءِ، المعرِّجِ في طرقاتٍ مسؤولةٍ، وواعيةٍ، ومدرِكة.
لا تهادنُ الكاتبةُ في تحليلِها، ولا تنحازُ في قراءتِها، وتثيرُ الريبةَ في ذهنِ المتلقي حينَ يَجب، وتتركُ عقلَه للثباتِ حيثُ ترى ذلك صائباً. تثيرُ أسئلةً منطقية، غرضُها النفعَ، لا الإلزامَ، لذلك تتجلّى حياديةُ استقرائِها نابعةً من فهمِها المعرفيِّ، الهادفِ إلى الإقناعِ المؤسَّسِ على الأدلةِ الثابتة، التي لا يرقى إليها الشكُ، وهي لا تتوانى عن الإشارةِ في أثناء دراستِها إلى الركائزِ العقليةِ المستمَدّةِ من كتبِ الدارسين قبلَها، فتكشفُ عن أفكارِهم، وهذا يتلاءمُ وطبيعةَ العملِ الجادِ، الذي تختطُّه كلُّ دراسةٍ منهجية.
وهي ترى أنّ روايةَ “بدايات” تجمعُ بينَ الأسطورةِ والتاريخ، وتعبثُ بتقديمِ الزمنِ وتأخيرِه، فلا تتخذُ أحداثُها خطَ الحياةِ الاعتياديةِ التصاعدية، شأنُها في ذلك شأنَ غيرِها من الروايات. وهي رواية تتناول إجمالا أحداثاً حصلت غالبيتها في نهايةِ القرنِ التاسعِ عشرَ وبدايةِ القرنِ العشرين.
يروقُني أن أبديَ ميزةَ الدراسة، عبرَ اقتطاعِ مقتطفاتٍ منها، وإنْ كانَ ذلك لا يغني عن العودةِ إلى الكتابِ كلِّه لِما يحتويه من فائدةٍ علميةٍ نقدية، فاستجداءُ الحقائقِ من المجتزأ ضروريٌ، نظراً لضيقِ الوقت، وإن كانَ سيغفلُ الكثيرَ من جهدِ الكاتبة. إذاً، إنّ انتقاءَ أفكارٍ، سيكونُ على حسابِ أخرى، قد تعادلُها جودةً، أو قد تفوقُها، غير أنّ الغايةَ هو تقديمُ صورةٍ إجماليةٍ عنِ المحتوى. لذلكَ أحثُّ على النهلِ من معارفِ المؤلَّفِ الغضة، المترَفَةِ التدقيقِ والأناقة.
لقد قسّمَتِ الباحثةُ عملَها إلى فصلين، تحدّثَ الفصلُ الأوّلُ عن الهويةِ والهجرةِ التاريخيةِ للأقليةِ المسيحيةِ اللبنانية. كما تناولَْ انتكاسَ رؤاها الثقافيةِ من خلالِ جبرايل، أخو جدِ الراوي، الذي هاجرَ إلى نيويورك، ثمّ إلى كوبا، حيث استقر، وأسّسَ ثروةً طائلةً، أو “امبراطورية تجارية صغيرة”(ص130). وأقامَ علاقاتٍ طيبة، لذلك راحَ يفتّشُ عن أقربائِه الموجودين في تلكَ الأصقاع. وتتحدّثُ عن هويةِ المهاجرِ اللبنانيِّ جبرايل، وانتمائِه، فيبدو جبرايل ممثّلاً وجهَ غالبيةِ اللبنانيينَ المغتربينَ عن أرضِ الوطن. فجبرايلُ لم يردْ التخلي عن هويتِه اللبنانيةِ الأصيلةِ الأولى، كما كان شديدُ الاعتزازِ بهويتِه الثانية، التي كسبَها من بلدِه المنتمي إليه كوبا.
أمّا الفصلُ الثاني، فقد تناولَ “بطرسَ وصنعَ الهويةِ بين الإرسالياتِ التبشيريةِ وأزمةِ الحداثةِ الحضاريةِ لأمةٍ أقلية”. وقد تناولَ هذا الفصلُ هويةَ بطرس المترجِّحةِ بينَ اللبنانيِّ العثماني، واللبنانيِّ الفرنسي، واللبنانيِّ الأميركي، واللبنانيِّ الماسوني. هذا التضاربُ الذي يقعُ في أحبولتِهِ بطرس، يجعلُنا نعي حقيقةَ تخبّطِ اللبنانيِّ، وضياعِه، وشعورِه بالهزيمة، والهروبِ من مشاكلِ الوطنِ إلى بلدٍ آخرَ.
ويتحدّثُ هذا الفصلُ عنِ التعدّدِ الطائفي، وحمايةِ كلِّ طائفةٍ من قبلِ أكثرِ من دولة، تدّعي أنّها الحاضنة، فيما هذه الدولُ لا تبحثُ سوى عن مصالحِها، وتريدُ من لبنانَ أن يخضعَ لأوامرِها. كما يثيرُ هذا الفصلُ مسألةَ تناحرِ أبناءِ الطائفةِ الواحدة، وهذا كلُّه يرفضُه الشاعرُ المتمرّدُ بطرس.
وبطرس الذي يدعو إلى الأخذِ من الحضارةِ الغربية(ص192)، يرى أنّ هذا الموضوعَ لا يخلو من المذلةِ والشعورِ بالهوان، لأنّه يحوي في مضامينِه نكراناً للذات.
وينتقدُ العملُ المثقفَ العربيَّ من خلالِ شخصيةِ بطرس، الذي يدّعي تخليصَ جبرايل من طيشِه عندما كان سيبيتُ في السجن. فبطرسُ يتركُ الحماقةَ تلتصقُ بجبرايل من أجلِ حمايةِ “الذات- الأنا” من مهانةٍ مجتمعية. يمتهنُ بطرسُ النفاقَ ويضخّمُ الأنا النافيةََ للآخر(ص225). ونسفُ الآخرِ سمةٌ موجودةٌ لدى غالبيةِ مثقفي العرب. وتعيدُ الكاتبةُ أسبابَ عدمِ تطوّرِ العربِ إلى إدمانِهم الانتظار، وتسليمِهم معالجةَ أمورِهم للقضاء والقدر، وهذا يتنافى مع طبيعةِ الغربي، الذي يغامرُ، ويبحثُ، ويَجِدُّ لتحقيقِ ما يبتغيه(ص238).
وبالعودةِ إلى مضمونِ الفصل الأوّل، الذي يتناولُ هجرةَ جبرايل، وهو في الثامنةَ عشرةَ من عمره. تقولُ الكاتبةُ أنَّ الراوي يستعيدُ مراراً أحداث العام 1860 في لبنانَ ودمشق، تلك التي عدّتْ مفصلاً تاريخياً أساسياً، “ساهم في صوغِ السياسةِ الخارجيةِ الغربيةِ حتى اليوم… وجرى التذرّعُ بمفاعيلِها لتسويغِ العديدِ من التدخّلاتِ الأجنبيةِ إلى يومِنا هذا… و…الكاتب …يتهمُ …الامبراطوريةَ العثمانيةَ بالتسببِ بارتكابِ هذه المذابحِ الطائفيةِ وما رافقَها من استبداد”(ص77). تثيرُ الباحثةُ هذا الكلامَ، ثمّ تنتقدُ العملَ الرّوائيََّ، لعدمِ إثارتِه بعضَ الأحداث، معتبرةً أنّها لو ذُكِرَت، لأسَّسَت وعياً لدى القارىء عن مراحلَ بقيتْ غامضةً عليه.
ويُبدي ما وردَ أنّ الكاتبةَ جادةٌ، ولامعة، وتستحقُ التقديرَ، إذ بدت محلّلةً يقظة، ومستوعبة لمضامينِ النصِ الروائي، تنهكُ أساريرَه عبر غوصِها في طياتِه، وتكشفُ ما تراهُ معوّجا، أو ناقصاً. كما هي مفكّرةٌ عميقةٌ تستأنسُ لما تقرأُه، ويروقُها أن تحملَ المتلقي إلى قناعتِها، كما تصوّبُ النظرَ إلى مسائلَ تثيرُ انتقادَها. كما تنتقدُ الباحثة أمين معلوف لأنّه ينعتُ المجتمعَ المسلمَ بالتحجر(ص238)، فتكشفُ بذلك عن فكرٍ تراه منافياً للمنطق، ومتصفاً بالغوغائيةِ والتجني إن صحَّ التعبير.
وبعد أن تبديَ الدورَ المهمَ والمنافسَ الذي لعبتَه الصناعةُ في لبنانَ وسوريا، وكيفيةَ ارتباطِ الاقتصادِ السوريِ بالاقتصادِ الغربي، وأسبابِ احتلالِ البلدين الآنفي الذكرِ بحجةِ حمايتِهما، كونَهما غيرَ مهيّأين لمواكبةِ “التمدّنِ الصناعي”(ص58)، نجدُ الكاتبةَ تجيدُ النظرَ إلى الأحداث، وترى أنّ الحديثَ عن فتنِ العام 1860 كانت ضعيفةً، وهذا بدورِه أضعفَ الحكاية.
وتوزّع الدكتورة زينب إضاءاتِها على تفاصيلَ هامة، تستطيعُ من خلالِ نقدِها العلميِّ أن تتلمّسَ جماليةَ النصِ الرّوائيِّ “بدايات”، بما يحويهِ من تأريخٍ للعلاقاتِ الإنسانيةِ في تلكَ الآونة. وتقدّمُ دراستَها مرحلةً أدبيةً تميّزَتْ بتماسِ علاقتِها مع الفرنسيين. لقد وردَ في تقديمِ العمل: “إنّ دراسةَ… روايةِ “بدايات” للكاتبِ أمين معلوف هي ليست مجردَ دراسةٍ لكتاب، هي قراءةٌ شاملةٌ للأدبِ اللبنانيِّ الناطقِ بالفرنسية، كما هي قراءةٌ لمسألةٍ اجتماعيةٍ تعودُ جذورِها إلى ماضٍ بعيدٍ وتستمرُ مفاعيلَها إلى اليوم”(ص17). وقد ارتأَتِ الكاتبةُ رأيَ أمين معلوف، فمن خلالِ قراءةِ الماضي في روايةِ “بدايات” ندركُ “حقائقَ اليوم(1)”.
خلاصة القول، إنّ روايةَ “بدايات” معجونةٌ بالقهرِ، والطموحاتِ الزائفة، ومسكونةٌ بالهزيمةِ والنفي. وتحليلُها يُبدي التاريخَ اللبنانيَّ_ العربيَّ الموسومَ بالعذاب، والبحثِ عن الهويةِ والانتماء. هو تحليلٌ يعوّلُ أهميةً على أسبابِ السقمِ العربيِّ نتيجةَ التدخلاتِ الأجنبيةِ بحجةِ الدفاعِ عنِ العرب، والارتقاءِ بهم إلى مصافِ الدولِ العظمى. في حين أنَّ الغربَ خائنٌ يسعَىَ لمراعاةِ مصالحه، وفرضِ سيطرتِه على مدخراتِ الشرق، وإن سبَّبَ ذلك استباحةَ الأرواح.
وهذا التحليلُ الذي يغوصُ في ثراءِ جبرايل في بلادِ الغربة، وتبددُ ثروتِه بعدَ مماتِه، كما يتلمّسُ حالاتِ التخبّطِ والانهيارِ والتضعضع لدى بطرس من جراءِ مشكلاتِ لبنانَ المتفاقمة، قد يعني أنَّ الهزيمةَ النكراءَ التي تلحقُ بمَن يغادرُ لبنان، لا تقلُّ ضراوةً عمَن يختارُ البقاءَ فيه.
- كلمة الدكتورة لميس حيدر في حفل مناقشة كتاب “الهجرة وأزمة الهوية في روايات بدايات لأمين معلوف” للكاتبة الدكتورة زينب الطجان.