ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين، في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
“عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نتقي الله في كلماتنا، وأن نعيد الاعتبار والقيمة إليها بعدما فقدت مضمونها، ولم تعد تعني لدى البعض شيئا، ولم يعد يلتزم بها، فيعد الناس، ويغدق عليهم بالأماني والأحلام، ولا يقدم لهم شيئا عند الاستحقاق، ويلتزم بالكلام مع الآخرين عندما يكون هناك مواثيق وعهود فقط، ويرجع عن كلامه، ولا سيما عندما يكون قويا ويكون الآخر ضعيفا، أو عندما لا يتوفر ما يثبت أقواله من مستند أو وثيقة أو تسجيل”.
اضاف “لقد جعل الله للكلمة قيمة عندما جعلها تحلل وتحرم، وبها يثاب الإنسان ويعاقب، عندما قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. وعن رسول الله “إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه”. وقد قال علي: “بالكلام ابيضت وجوه، وبالكلام اسودت وجوه”. ونحن عندما نلتزم بالكلمة التي نطلقها، سوف تصفو الحياة من حولنا، وسنخفف الكثير من التوترات، وبذلك نواجه التحديات.
تابع “والبداية من أميركا، حيث يتسلم الرئيس الأميركي اليوم مهامه الرئاسية، وسط مخاوف تلف العالم من أن ينفذ ما وعد به في خطاباته النارية خلال حملته الانتخابية تجاه المسلمين والمهاجرين إلى أميركا، أو تجاه أوروبا والصين والسعودية، أو في دعمه للكيان الصهيوني، وقراره القاضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، أو إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، ما سيساهم في إشعال فتن جديدة، ويفاقم توترات راهنة، ويقرب العالم من نمط غير مألوف من الحروب”. واردف “ونحن في ذلك، لا نتحدث بمنطق المتحمسين الذين يستهينون بقدرات أميركا، أو الذين يقولون عنها إنها نمر من ورق، بل بمنطق الواقعيين الذين يرون أن أميركا تمتلك القدرات والإمكانات الهائلة على المستوى الاقتصادي والمالي والعسكري في العالم، ويحسب لها حساب، وأن هذا الرئيس قد يقدم على ما وعد به، ويتصرف بطريقة مختلفة لم نعهدها لدى الآخرين”.
اضاف فضل الله “لكننا في الوقت نفسه، لا نتحدث بمنطق المستهينين، لأننا ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن كل هذا الوعد والوعيد قد يكون من باب التهويل، وإعادة الاعتبار إلى موقع أمريكا ودورها ونفوذها، الذي تراجع في ظل موازين القوى الراهنة، إذ لم تعد هي اللاعب الوحيد في هذا العالم، فهناك قوى أخرى صاعدة، وإن لم تملك إمكانات هزيمتها، فهي تملك القدرة على إرباك مشاريعها وخططها”.
لقد أثبت الواقع السابق أننا لا ينبغي النظر إلى أميركا، وإلى أية قوة أخرى، على أنها قضاء لازم، فقد حركت في السابق كل قدراتها العسكرية وإمكاناتها في أكثر من بلد، ولكنها لم تستطع أن تواجه إرادات الشعوب أو الدول عندما أخذت خيارات المواجهة”.
وتابع “وفي الوقت نفسه، نقول لكل الدول العربية والإسلامية التي لا تزال تراهن على دور أميركا في حل المشاكل التي تعانيها، إن أميركا لا تنطلق في هذا العالم إلا من خلال مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني. ولذلك، يجب أن يبقى رهانهم على بناء قوتهم على مختلف المستويات، وخصوصا القوة التي يوفرها سعيهم إلى التصالح مع شعوبهم، وحرصهم على وحدتهم، وتعاونهم فيما بينهم”.
ومن هنا، نرى أهمية الدعوة التي انطلقت من الرئيس الإيراني في مد يده إلى المملكة العربية السعودية، للتعاون من أجل حل كل التوترات الحاصلة، وإزالة كل أسباب الاختلاف.
إننا نريد لهذه الدعوة أن تلقى القبول لدى الآخرين، ونأمل أن تستثمر كل الفرص لإعادة بناء الجسور العربية والإسلامية، حتى يقف هذا الاستنزاف الدامي الذي تعانيه المنطقة في سوريا أو في العراق أو اليمن أو ليبيا أو البحرين.
اضاف “وعلى الصعيد الفلسطيني، انعقد مؤتمر باريس لتحريك عملية التسوية في الشرق الأوسط، في حضور أكثر من سبعين دولة ومنظمة دولية، والذي بنى عليه العرب والفلسطينيون آمالا سرعان ما تبخرت مع الإعلان عن قراراته. ورغم رفض الكيان الصهيوني له، فقد سمح هذا المؤتمر لمصطلح الدولة اليهودية بالمرور، وأبرق للكيان الصهيوني رسالة مفادها أننا لن نعترف بدولة فلسطينية من طرف واحد، ولن نقبل بفرض أي حل على الحكومة الصهيونية. كما أنه استنكر عنف الفلسطينيين، فيما لم يذكر عنف الصهاينة المستمر على الفلسطينيين.
وعلى الرغم من ذلك، فقد صعد العدو من عمليات هدمه لمنازل الفلسطينيين في القدس وفي قرية أم الحيران في النقب، بحجة عدم وجود تراخيص، كما تواصلت وتيرة الاستيطان إلى جانب عمليات الاعتقال للشباب الفلسطيني واغتيال النشطاء واعتقالهم، ما أسقط المزيد من الآمال التي بناها البعض على المواقف الدولية حيال الفلسطينيين.
إننا ندرك أن القضية الفلسطينية هي التي تدفع الثمن، في ظل التمزق العربي والإسلامي، ووسط حالة الانفتاح السري أو العلني على العدو. وبالتالي، لا مجال للتعويل إلا على مقاومة الشعب الفلسطيني في الداخل، الذي أثبت أنه قادر على تغيير المعادلات بصموده وصبره. وهو ما يحمل الشعوب العربية والإسلامية المسؤوليات الكبيرة تجاه هذا الشعب.
واردف فضل الله “ونعود إلى لبنان، الذي اكتمل فيه عقد عودة مؤسسات الدولة إلى العمل، بعودة التشريع إلى المجلس النيابي، بعد توقف طويل ترك آثاره السلبية في مصالح المواطنين وفي انتظام عمل مؤسسات الدولة.
وفي هذا الوقت، يستمر الجدل، وبالصوت العالي، حول القانون الانتخابي الذي سيعتمد في الانتخابات المقبلة، حيث يسعى كل فريق إلى تمرير القانون الذي يناسبه، ويؤمن له المحافظة على المكاسب التي حققها في المراحل السابقة، ما يهدد بانقسام قد يودي بالصيغة التوافقية التي حكمت البلد طوال الفترة السابقة، ويعيد البلد إلى حالة الانقسام السياسي.
ولكننا، وكما أشرنا في الأسبوع الماضي، نؤكد أن إعادة الانقسام ليس من مصلحة الطبقة السياسية، وأن هذه الطبقة التي تتقن منطق الصفقات وتوزيع الحصص، قادرة على إنتاج التسويات، من خلال قانون انتخابي يضمن لجميع الأطراف مصالحهم.
وفي موازاة ذلك، تعود أزمة النفايات بكل تداعياتها، بعد إقرار إقفال مطمر الكوستابرافا، وإثر ظهور السلبيات الناشئة عن وجوده قرب المطار، وتداعياته على سلامة الطيران. وقد تبين أن هذا الحل لم يكن مدروسا بالشكل الكافي، ونحن نرى أن هذا الملف سيشكل امتحانا للحكومة الجديدة ولمقدرتها على معالجته، حتى تكون المعالجة بناء على الدراسات المعمقة، لا على التسويات والمحاصصات.
ودعا فضل الله القوى الأمنية والسياسية والعشائرية والعائلات إلى معالجة جذرية لمشاكل الخطف والاعتداءات التي تحصل في البقاع، والتي تسيء إلى سلامة المواطن وأمنه، وإلى صورة هذه المنطقة والعيش المشترك فيها، وخصوصا أن من يقوم بهذه الممارسات هم قلة لا يمثلونها ولا يحملون قيمها؛ قيم العطاء والكرم والألفة والوحدة التي عهدناها”.
المصدر: الوكالة الوطنية للاعلام