منذ بناء «مفاعل ديمونة» النووي بمساعدة فرنسية في الخمسينيات من القرن الماضي، ولغاية الآن، عملت إسرائيل على اتباع منطق الغموض والتضليل في ما يتعلق بمسألة امتلاكها السلاح النووي. وقد دللت جميع الدراسات والأبحاث الخاصة بالقدرات النووية الإسرائيلية على أن سياسة إسرائيل طالما ارتكزت على عدم تأكيد أو نفي امتلاكها السلاح النووي، بالرغم من أن قادتها تعمدوا على الدوام الإيحاء للعالم بأنها تمتلك ترسانة نووية ضخمة.
وفي إطار إجماع كثير من الخبراء الدوليين على أن إسرائيل ليست دولة نووية فحسب، وإنما هي القوة النووية الخامسة أو السادسة في العالم، وسيادة منطق الغموض والتضليل في ما يتعلق بمسألة امتلاكها للسلاح النووي، عرضت «سكاي نيوز عربية» فيلماً وثائقياً بعنوان «القنبلة الموقوتة»، يصحبكم في رحلة للبحث عن حقيقة «مفاعل ديمونة» وإماطة اللثام عن البرنامج النووي الأكثر سرية في العالم.
وللحصول على أجوبة حول القدرات النووية الإسرائيلية، كان لا بد لفريق المحطة من المخاطرة والتوجه إلى إسرائيل نفسها والبدء من صحراء النقب، حيث يقبع مبنى «مفاعل ديمونة» الذي يكتنفه الغموض وتحيط به السرية التامة، وتدور حوله كثير من الشائعات. وفي مقابلة مع داني ياتوم، الجنرال المتقاعد في الجيش الإسرائيلي والمستشار العسكري لرئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين والرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية «الموساد»، لم يشأ ياتوم تأكيد أو دحض حقيقة الشائعات حول امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية. لكنه أفاد بأن ذلك يشكّل رادعاً للدول المجاورة طالما إنها تعتقد بامتلاك إسرائيل لتلك القدرة النووية.
ويواصل الفريق الصحافي البحث عن الحقيقة، ويقابل البروفيسور أوزي أفين، أستاذ الكيمياء في جامعة تل أبيب والخبير السابق في مفاعل ديمونة وأحد مؤسسي البرنامج النووي الإسرائيلي، الذي يطلق عليه البعض لقب «الأب الروحي للقنبلة الذرية الإسرائيلية». ويشير إلى أن القدرة النووية الإسرائيلية كانت ولا تزال سراً حافظ عليه لمدة ستين عاماً لغاية الآن، بيد أنه يؤكد أن مفاعل ديمونة النووي يعمل بشكل متواصل منذ أكثر من خمسين عاماً، ويتعين الآن إغلاقه لأنه أصبح قديما جداً وغير آمن.
ومن جامعة تل أبيب، إلى أحد المقاهي في المدينة التقى الفريق يوسيه ميلمن، المحقق الصحافي المعروف والمتخصص في المعلومات الاستخباراتية، والذي سربت ويكيليكس بأنه عميل لدى الموساد الإسرائيلي. ويفيد ميلمن بأن حقيقة امتلاك إسرائيل للسلاح النووي هو سر معروف حول العالم، وبأن إسرائيل تحتل المرتبة السادسة عالمياً بين القوى النووية الرئيسية. يوسي ميلمن كان أيضاً الصحافي الذي كشف سراً خطيراً يتعلق بإجبار العمال في مفاعل ديمونة على تناول كميات من اليورانيوم لأغراض بحوث طبية.
وفي محاولة للحصول على أجوبة للكثير من التساؤلات التي رفض الإسرائيليون طرحها عليهم أو تقديم أي إجابات عليها، يتوجه الفريق الصحافي إلى العاصمة الألمانية، برلين، وتحديداً إلى مقر رابطة الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية، لمقابلة زانتيه هول، الخبيرة الدولية في مجال الأسلحة النووية، التي تعمل أيضاً منسقة لأعضاء البرلمان الأوروبي لنزع الأسلحة النووية ومنع انتشارها.
وتشير هول إلى أن لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية هي واحدة من المؤسسات الأكثر سرية في العالم، وأنها تتخذ شكلاً من أشكال الهيئة السياسية من خلال رئيسها بنيامين نتنياهو. وهي لا تخضع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما هو الحال مع المؤسسات النووية الأخرى حول العالم. كما تؤكد هول أن تفتيش مفاعل ديمونة هو أمر في غاية الأهمية للتعرف على ماهية البرنامج النووي الإسرائيلي ومعايير السلامة المعتمدة فيه.
ومن برلين إلى قرية هادئة في قلب اسكتلندا، يلتقي الفريق بيتر هونام، الصحافي المستقل الذي كان مسؤولاً في قسم التحقيقات الصحافية في صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية خلال التسعينيات.
يقول هونام إنه بعد أشهر من ضغوط الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي، وافقت إسرائيل في مايو/آيار 1961 على قيام فريق تحقيق أمريكي بزيارة مباني مفاعل ديمونة بسرية تامة وتحت شروط صارمة.
ويؤكد هونام إنه عندما تمكن المفتشون الأمريكيون أخيراً من الدخول إلى مبنى المفاعل، كانوا قد وقعوا مسبقاً ضحية للخداع، حيث تم اطلاعهم على غرفة تحكم وهمية في الطابق الأرضي ولم يكونوا على علم بوجود ستة طوابق أخرى أسفل هذا المبنى، حيث يتم تصنيع مادة البلوتونيوم المتفجرة.
ويروي الفيلم القصة المشوقة التي جمعت بين الصحفي بيتر هونام وموردخاي فعنونو، الذي عمل كتقني نووي في مفاعل ديمونة الإسرائيلي وقام في عام 1986 بنشر كتاب يحوي صورا ومعلومات تفصيلية عن ما يجري بمفاعل ديمونة.
وعندما علمت إسرائيل عن تسريب المعلومات النووية، تم اختطاف فعنونو بواسطة عملاء الموساد بطريقة سرية في إيطاليا وإعادته إلى إسرائيل، حيث حكم عليه بالسجن لمدة 18 عاماً، قضى 11 عاماً منها بالسجن الانفرادي، وتم إطلاق سراحه في 21 أبريل/نيسان 2004.
ويثير هذا الفيلم الوثائقي مجموعة من التساؤلات المقلقة التي تدور حول عدم إمكانية تقدير التأثير الحالي على البيئة أو على صحة الناس في المنطقة، وذلك في ظل السرية التامة التي تحيط بماهية البرنامج النووي الإسرائيلي وكيف يتم تخزين المواد وماذا يفعلون بقضبان الوقود وكيف ومتى يتم تغيير قضبان الوقود في المفاعل، ناهيك عن كيفية تبريد المفاعل وحمايته، والأهم من ذلك كله، ماذا يفعلون بالنفايات النووية المستخرجة من المفاعل.
وسعياً وراء الإجابة على تلك التساؤلات ومحاولة معرفة ما إذا كانت هناك نشاطات إشعاعية أو تسربات للنفايات النووية بالمنطقة، يعود الفريق إلى الأراضي الفلسطينية، وتحديداً إلى قرية الظاهرية، في محافظة الخليل، التي تعتبر الأقرب جغرافياً لديمونة. وهناك يؤكد الدكتور محمود سعد، الذي يمارس مهنة الطب هناك منذ عشرات السنين، ويعمل حالياً كرئيس فرع فلسطين لرابطة الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية، على أنه لا توجد بقعة في العالم تضاهي محافظة الخليل الفلسطينية، بنسب تركيز الإشعاعات النووية، سوى «فوكوشيما» في اليابان و»تشيرنوبيل»، التي شهدت الانفجار الشهير في مفاعلها منتصف الثمانينيات.
وللتحري عن المئات من حالات الإصابة بالسرطان في الأردن، بنسب تفوق أي مرض آخر، توجه الفريق الصحافي إلى العاصمة الأردنية عمّان للقاء النائب العام السابق، الذي أخذ على عاتقه منذ سنوات عدة ، كشف حقيقة مفاعل ديمونة، وتأثيره على المواطنين الأردنيين، حيث أشار إلى أن الأطباء في المنطقة يتحدثون عن وجود زيادة في حالات السرطان، خاصة وأن محافظة الطفيلة، جنوبي الأردن، تقع على مسافة بضع عشرات من الكيلومترات من مفاعل ديمونة.
ويقول الصحافي الأردني غازي العمارين إن الكلمات الوحيدة التي تتكرر في كل بيت في المنطقة هي «ديمونة.. المرض والموت».
المصدر: جريدة القدس العربي