في وقت يعيش فيه لبنان أزمة اقتصادية خانقة، تتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية على الحكومة الجديدة، سواء في مجال السياسة النقدية أو الإصلاحات المالية. وفي قلب هذه التحديات، يبرز منصب حاكم مصرف لبنان المركزي كأحد الركائز الأساسية التي قد تحدد مستقبل الاقتصاد اللبناني في المرحلة المقبلة. ويكتسب هذا التعيين أهمية خاصة في ظل الوضع المقلق الذي يعيشه القطاع المالي والمصرفي اللبناني، مع تراكم الأزمات المالية والاجتماعية والتدخلات الخارجية.
في هذا السياق، تُجري الولايات المتحدة مشاورات مع الحكومة اللبنانية لاختيار شخصية جديدة لتولي منصب حاكم المصرف المركزي، في خطوة تهدف إلى التأثير على السياسات النقدية التي سيعتمدها لبنان في المستقبل، لا سيّما فيما يتعلق بمكافحة تمويل حزب الله.
وسط هذه الضغوط، تبرز تساؤلات حقيقية حول كيفية الحفاظ على استقلالية المؤسسات المالية اللبنانية في مواجهة التدخلات الخارجية، مما يثير القلق بشأن سيادة لبنان واستقلالية قراراته.
وفي هذا الإطار، لفت المحلل الاقتصادي زياد ناصر الدين، في مقابلة مع موقع المنار، إلى أن الوضع الحالي يُظهر بوضوح تدخل القوى الغربية في شؤون لبنان، ولا سيّما في مسألة تعيين حاكم مصرف لبنان، مشيرًا إلى أن تقريرًا لوكالة “رويترز”، استند إلى خمس مصادر مختلفة، يؤكد وجود تدخلات واضحة من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث طلبت الاطلاع على السير الذاتية للمرشحين لهذا المنصب، مما يعكس حقيقة مؤلمة عن غياب السيادة الوطنية.
ويعكس هذا التدخل الغربي واقعًا سياسيًا مريرًا في لبنان، حيث لا تزال الدولة اللبنانية تفتقر إلى القدرة على اتخاذ قراراتها المستقلة، وفقًا لناصر الدين، الذي كشف عن مبادرة فرنسية لترشيح سمير عساف، أحد المرشحين الرئاسيين السابقين، والذي يحظى اليوم بدعم قوي من فرنسا والغرب، نظرًا لارتباطه الوثيق بملف صندوق دعم لبنان.
إلى جانب عساف، برزت أسماء أخرى لا تزال متداولة في الأوساط السياسية، من بينها كريم سعيد، في حين يبقى جهاد أزعور الأوفر حظًا، وفقًا لناصر الدين، بسبب علاقاته مع صندوق النقد الدولي.
وبحسب مصادر خاصة لموقع المنار، فإن التعيينات الإدارية لم تنضج بعد، إلا أن الاسم الأوفر حظًا لتولي حاكمية مصرف لبنان هو كريم سعيد، شقيق النائب السابق فارس سعيد، والذي يتمتع بمسيرة طويلة في العمل المصرفي داخل مؤسسات مصرفية دولية وعربية.
أهمية تعيين حاكم مصرف لبنان والتحديات التي تواجه هذه العملية
يُعتبر منصب حاكم مصرف لبنان المركزي ذا أهمية بالغة في المرحلة الحالية، حيث يتولى مسؤولية صياغة السياسة النقدية وإدارة الاحتياطيات النقدية، بالإضافة إلى دوره المحوري في استعادة الثقة بالنظام المالي اللبناني. ويأتي هذا التعيين في وقت حرج، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان وبعد سنوات من الأزمة الاقتصادية التي أثرت في مختلف القطاعات.
وتواجه عملية التعيين معوقات عدة، أبرزها التدخلات الأميركية التي تمارسها واشنطن، فضلًا عن تأثير الأحزاب السياسية والمصالح المتضاربة، مما قد يؤخر عملية التعيين، خاصة في ظل التوازنات الطائفية والسياسية في لبنان.
كما أن لصندوق النقد الدولي تأثيرًا في عملية اختيار حاكم مصرف لبنان، خاصة إذا كان التوجه الحكومي هو الاستدانة من هذه المؤسسة الدولية، مما قد يدفع بترشيح شخصيات أخرى تتماشى مع سياسات الصندوق.
وضمن هذا الإطار، أشار ناصر الدين إلى أن الشروط التي يفرضها صندوق النقد على لبنان تبدو أكثر قسوة مقارنة بدول أخرى في المنطقة. وقال: “لبنان بحاجة إلى الدعم المالي من الصندوق، لكن في الوقت نفسه، لا يقتصر دوره على المساعدات المالية فحسب، بل يحتاج لبنان أيضًا إلى استعادة الثقة الدولية”. وأضاف أن صندوق النقد الدولي لا يتعامل مع ملف إعادة الإعمار، مما يثير تساؤلات حول مدى استفادة لبنان الحقيقية من هذا التعاون.
كما لفت ناصر الدين إلى أن الإصلاحات المطلوبة من لبنان، مثل تعيين الهيئات الناظمة، وإعادة هيكلة المصارف، وتحسين الجباية الضريبية والجمارك، هي مطالب لبنانية داخلية بحتة، رغم الخلافات السياسية المستمرة حولها”. وفيما يتعلق بمساعدات الصندوق، وصف تقديمه مبلغ 3 مليارات دولار على مدى أربع سنوات بـ”المزحة”، نظرًا إلى حجم الأزمة التي يمر بها لبنان.
وأشار ناصر الدين إلى أن صندوق النقد الدولي لم يتخذ، حتى الآن، قرارًا بتقديم أموال للبنان، بل يفضّل انتظار التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الإصلاحات المطلوبة”. كما أعرب عن مخاوف من أن تتحول شروط الصندوق إلى شروط سياسية في اللحظات الأخيرة.
ويعاني النظام المالي والاقتصادي في لبنان من إشكالية حقيقية تتمثل في فقدان الثقة الداخلية، مما يجعل إعادة بنائها أمرًا بالغ الأهمية. إلا أن العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان يشكل عائقًا كبيرًا أمام استقطاب الاستثمارات.
وفي حين يصعب فصل الملف الاقتصادي عن الأمني في لبنان، أشار ناصر الدين إلى ضرورة تحقيق الاستقرار الأمني، بما في ذلك انسحاب العدو الإسرائيلي وتثبيت الحدود، من أجل توفير بيئة اقتصادية مستقرة.
التحديات الاقتصادية أمام الحكومة الجديدة في لبنان
تواجه الحكومة اللبنانية الجديدة مجموعة من الأولويات الاقتصادية الكبرى التي تتطلب معالجتها بشكل عاجل وفعّال، أبرزها إعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، إضافة إلى تعويض الأضرار التي لحقت بالأراضي الزراعية، فضلًا عن استعادة القدرة التفاوضية مع صندوق النقد الدولي ومعالجة أزمة انقطاع الكهرباء المستمرة.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن تكلفة إعادة الإعمار والتعافي جراء الحرب الإسرائيلية الأخيرة تُقدَّر بنحو 11 مليار دولار أميركي، موزعةً على نحو 3 إلى 5 مليارات دولار للقطاع العام لتحسين البنية التحتية المدمرة، بينما يُتوقع أن يساهم القطاع الخاص بمبلغ يتراوح بين 6 و8 مليارات دولار لدعم قطاعات الإسكان والتجارة والصناعة والسياحة.
ورغم ذلك، تواجه الحكومة تحديًا حقيقيًا في تأمين الميزانية اللازمة لتنفيذ هذه المشاريع الضخمة دون اللجوء إلى الدعم الدولي، لا سيّما من دول الخليج، التي تشترط تقديم مساعدات مالية مشروطة بإصلاحات هيكلية ومؤسسية واسعة.
في هذا الإطار، جاء التحذير الأخير من صندوق النقد الدولي بعد زيارة قام بها خبراؤه إلى بيروت في مايو 2024، حيث نبهوا إلى أن عدم اتخاذ خطوات جادة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية سيؤدي إلى تفاقم الأضرار التي أصابت الاقتصاد اللبناني.
وطالب الخبراء بالحصول على ما يشبه “شهادة حسن السلوك” للاقتصاد اللبناني، مما يعزز مصداقية لبنان في الأسواق المالية العالمية ووكالات التصنيف الائتماني، التي تشترط هذه الخطوات لاستعادة الثقة في الاقتصاد اللبناني.
على المدى القريب، تتطلب المرحلة المقبلة استقرار المالية العامة من خلال إقرار الموازنات في مواعيدها الدستورية، ووقف العجز المالي المتراكم، وتعزيز الشفافية في القطاع الحكومي، إلى جانب تحسين الحوكمة والمساءلة، مما يسهم في تقوية العلاقة بين الدولة والمواطن.
المصدر: موقع المنار