المعادن النادرة.. كيف يبني ترامب إمبراطوريته؟ – موقع قناة المنار – لبنان
المجموعة اللبنانية للإعلام
قناة المنار

المعادن النادرة.. كيف يبني ترامب إمبراطوريته؟

المعادن النادرة
أحمد فرحات

مع تسارع وتيرة الثورة التكنولوجية والتحول نحو الطاقة النظيفة، لم تعد المعادن النادرة مجرد عناصر كيميائية تُدرَّس في المعاهد، بل غدت كنوزًا دفينة تتصارع عليها القوى الكبرى، وسلاحًا استراتيجيًا يشعل نيران المنافسة في ساحات الجيوسياسة والاقتصاد.

هذه المعادن، التي تشمل الذهب المتلألئ، الفضة البراقة، البلاتين النادر، البالاديوم الثمين، بالإضافة إلى العناصر الأرضية النادرة مثل اللانثانوم والنيوديميوم، تُعد العمود الفقري للصناعات الحديثة، من الهواتف الذكية التي تتسلل إلى كل جيب، إلى السيارات الكهربائية التي تغزو الشوارع، وحتى الأسلحة المتطورة التي تحدد موازين القوى في ساحات الحروب.

وفي خضم هذا التنافس العالمي المحتدم، يبرز اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كطامع يسعى إلى بناء إمبراطورية قائمة على السيطرة على هذه الموارد الثمينة، ليضمن لنفسه موطئ قدم في سباق الهيمنة على المستقبل.

ولهذا، تسعى الإدارة الأمريكية الحالية، بوجود ترامب، إلى استغلال نفوذها للسيطرة على موارد الليثيوم والكوبالت والمعادن النادرة في العالم، من خلال إجراءات سياسية واقتصادية مكثفة.

ومن هنا يمكن فهم الضغوط الأمريكية على جنوب أفريقيا، وتحريك الخلافات العرقية بها من قبل ترامب، في محاولة منه لابتزاز هذه الدولة، بهدف الحصول على احتياطاتها الضخمة من المعادن النادرة.

أدرك ترامب منذ وقت مبكر أن الاعتماد المفرط على الصين، التي تفرض هيمنتها على أكثر من 80% من إنتاج المعادن النادرة عالميًا، يشكل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي الأمريكي. لذا، أطلق العنان لخططه الطموحة، فبدأ بتعزيز الإنتاج المحلي عبر تخفيف القيود البيئية المفروضة على عمليات التعدين، ما منح الشركات الأمريكية دفعة قوية لزيادة إنتاجها. لكن سرعان ما أدرك أن الاكتفاء الذاتي محض وهم، فوجه بوصلته نحو دول أخرى غنية بهذه الموارد، مثل أوكرانيا، جنوب أفريقيا، وجرينلاند، في محاولة لنسج شبكة نفوذ تضمن تدفق المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة بلا انقطاع.

أوكرانيا.. بوابة أوروبا إلى الكنوز المدفونة

تمتلك أوكرانيا احتياطيات هائلة من المعادن النادرة، خاصة في مناطقها الشرقية، ما جعلها محط أطماع ترامب. وإلى جانب الحسابات السياسية المتعلقة بالصراع مع روسيا، كانت ثروات أوكرانيا الطبيعية بمثابة الكنز المخفي الذي يطمح ترامب إلى الاستحواذ عليه بأي وسيلة.

وفي معادلة باتت واضحة كالشمس، حيث من يسيطر على المعادن النادرة يفرض هيمنته على مستقبل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية، ضغطت الإدارة الأمريكية الجديدة على كييف لإجبارها على توقيع اتفاقية تمنح الولايات المتحدة 50% من معادنها مجانًا، مقابل ما تزعم واشنطن أنه “دعم تسليحي ومالي” لمساعدتها في مواجهة روسيا.

وتقع أغلب مناجم المعادن النادرة في أوكرانيا في شرق البلاد الواقع تحت سيطرة روسيا، وتشمل الليثيوم والتيتانيوم والغرافيت، وهي معادن حيوية للصناعات التقنية المتقدمة، وهذا ما يفسر التقارب الأخير بين روسيا وأمريكا، حيث تسعى الأخيرة إلى التفاوض مع موسكو للحصول على حصة من تلك الموارد.

جنوب أفريقيا.. كنوز القارة السمراء تحت المجهر الأمريكي

في القارة الأفريقية، حيث تكتنز الأرض ثرواتها في صمت، لفتت جنوب أفريقيا أنظار الإدارة الأمريكية، ليس فقط لأنها واحدة من أكبر منتجي البلاتين والذهب في العالم، بل لأنها تمثل بوابة للسيطرة على معادن نادرة أخرى ضرورية للصناعات المتقدمة.

وبخطوات محسوبة، أبرمت واشنطن اتفاقيات لتعزيز الاستثمارات في قطاع التعدين في جنوب أفريقيا، لضمان تدفق المعادن إلى الأسواق الأمريكية دون انقطاع. لم تكن هذه الخطوة مجرد تعاون اقتصادي، بل كانت جزءًا من رقعة شطرنج استراتيجية تهدف إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في أفريقيا، القارة التي لطالما أُطلق عليها لقب “المخزن العالمي للثروات الطبيعية”.

ولم يتوقف الطموح الأمريكي عند جنوب أفريقيا، فقد وقّعت الولايات المتحدة في عام 2022 اتفاقيات مع جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا لتطوير سلسلة توريد خاصة ببطاريات السيارات الكهربائية، مما يسلط الضوء على سعيها الحثيث للاستفادة من احتياطيات النحاس والليثيوم والكوبالت في هذين البلدين، حيث تُعد هذه المعادن العمود الفقري لصناعة البطاريات والتكنولوجيا الحديثة.

ولتعزيز سيطرتها اللوجستية، ساهمت واشنطن في تمويل مشروع إعادة تأهيل ممر السكك الحديدية “لوبيتو”، الذي يهدف إلى تسهيل نقل المعادن من الكونغو وزامبيا وأنغولا إلى الساحل الغربي لأفريقيا، مما يمنح الولايات المتحدة ميزة استراتيجية في تأمين هذه الموارد الحيوية.

غرينلاند.. الجليد الذي يخفي كنوز الأرض

غرينلاند، الجزيرة الجليدية الشاسعة، لم تفلت من أنظار ترامب، الذي أعلن جهارةً عن رغبته في شرائها، في خطوة بدت للعالم كمزحة، لكنها في الواقع كانت تعكس مخططًا اقتصاديًا واستراتيجيًا مدروسًا.

فبين طبقات الجليد السميكة، تكمن ثروات هائلة من المعادن النادرة، إلى جانب احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، ما يجعل غرينلاند أشبه بجوهرة دفينة في سباق الهيمنة على الموارد الطبيعية. ومع احتدام المنافسة الدولية، سعت واشنطن إلى فرض نفوذها في المنطقة، محاولةً قطع الطريق أمام الصين وروسيا، اللتين تدركان بدورهما قيمة هذه الجزيرة وما تخفيه من كنوز.

المعادن النادرة في العالم

الصراع العالمي على المعادن النادرة.. حرب باردة بثوب اقتصادي

لم يكن السباق على المعادن النادرة مقتصرًا على الولايات المتحدة وحدها، بل دخلت الصين وروسيا الحلبة بقوة. الصين، العملاق الصناعي، تمسكت بقبضتها الحديدية على سوق المعادن النادرة، مستثمرةً مليارات الدولارات في أفريقيا ومناطق أخرى لتعزيز سيطرتها. أما روسيا، التي تمتلك كميات هائلة من البالاديوم والبلاتين، فقد كثفت جهودها لتعزيز نفوذها في القطب الشمالي، حيث ترقد احتياطيات هائلة تحت الجليد.

سعي ترامب الحثيث لتأمين إمدادات المعادن النادرة لم يكن مجرد خطوة اقتصادية، بل كان عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل خريطة العلاقات الدولية. فالتنافس مع الصين قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما قد تدفع التحركات الأمريكية روسيا إلى تعزيز تحالفاتها مع دول أخرى غنية بالمعادن، مثل كازاخستان ومنغوليا.

وفيما تنظر الدول النامية إلى الاستثمارات الأمريكية بترقب، تخشى العديد منها أن تتحول هذه الشراكات إلى شكل جديد من أشكال الهيمنة، حيث تُستنزف الموارد دون أن تنعكس فوائدها على شعوبها.

في عالم يتجه بسرعة نحو التكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة، تحولت المعادن النادرة إلى مفتاح الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. ومن خلال سعيه الحثيث لبناء شبكة نفوذ تمتد من أوكرانيا إلى أفريقيا وصولًا إلى جرينلاند، يبدو أن ترامب كان يعمل على تأسيس إمبراطورية من نوع جديد، لا تقوم على الأراضي والجيوش، بل على السيطرة على الموارد التي تحرك عجلة الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا.

ورغم أن بعض تحركاته بدت مستفزة أو حتى مثيرة للجدل، إلا أنها تعكس إدراكًا عميقًا لحقيقة أن من يملك المعادن النادرة اليوم، قد يتحكم في موازين القوى العالمية غدًا. وفي النهاية، هذه ليست مجرد منافسة اقتصادية، بل هي معركة من أجل السيطرة على مقدرات الكوكب، حيث تتداخل السياسة بالاقتصاد، ويتصارع العمالقة في العلن وفي السر على كنوز الأرض المخفية.

المصدر: موقع المنار