مرّت “هيئة تحرير الشام” بالعديد من التبدلات السياسية والفكرية منذ ظهورهاً الاول على الساحة السورية كفصيل يتبع ما كان يسمى في حينها “دولة العراق الاسلامية” التابعة لتنظيم القاعدة بزعامة إبراهيم عواد البدري (أبو بكر البغدادي).
وعبّر “البغدادي” عن هذه العلاقة بالقول إن “الجولاني ما هو إلا جندي في دولة العراق الإسلامية، وتم انتدابه إلى الشام للعمل مع الخلايا الموجودة هناك”، مضيفاً إنه وضع الخطط لهم وأمدّهم بالأموال والرجال، وذلك في كلمته الشهيرة التي حملت اسم “وبشّر المؤمنين” في آذار/ مارس عام 2013.
كما أكد على هذا الأمر الذي لم ينفه “الجولاني”، المتحدثُ باسم تنظيم “داعش” أبو محمد العدناني في كلمته التي حملت عنوان “وذروهم وما يفترون” عام (2013) والتي قال فيها إن “جبهة النصرة ما هي إلا ستار أمني لوجود الدولة في الشام، وإن أميرها ما هو إلا جندي من جنود الدولة”.
كيف تحولت “هيئة تحرير الشام” من أحد فروع تنظيم القاعدة العالمي إلى جماعة سياسية، يرتقي قائدها الذي كان جندياً في دولة البغدادي، إلى قائد ما يسمى “الإدارة السياسية الجديدة في سوريا” ويتم التعامل معه بصورة رسمية أو كأمر واقع من دول في المنطقة والغرب؟
اليكم القصة منذ البداية…
سارع تنظيم القاعدة العالمي إلى دعوة عناصره إلى الدخول فيما أسماه “التدافع” مع الدولة السورية، بعد اندلاع الأحداث في سوريا في شباط/ فبراير عام 2011. وحضرت الجماعات المسلحة في الميدان، مع دعوة زعيم تنظيم القاعدة السابق (أيمن الظواهري) إلى مساندة وتأييد الشعوب في حراكها ضد الحكام، والعمل على إقامة الخلافة التي لا تعترف “بالدولة القومية ولا الرابطة الوطنية ولا الحدود التي فرضها المحتلون”.
وقد أُعلن في سوريا عن تأسيس “جبهة النصرة لأهل الشام” بداية 2012، كتلبية لنداءات الجهاد التي أطلقها العديد من الشخصيات “السلفية الجهادية” لنصرة الشعب السوري. ونفذت أولى عملياتها العسكرية قبل ذلك التاريخ وبالتحديد في كانون الاول/ ديسمبر 2011، بتفجير انتحاري مزدوج استهدف مبنى المخابرات العامة في دمشق.
بدأت “جبهة النصرة” عملها في سوريا كامتداد لفرع تنظيم القاعدة في العراق، وتحت قيادة (إبراهيم عواد البدري) الذي كشف عن هذه التبعية التنظيمية في كلمة صوتية، كما أسلفنا، وأرجع التأخر في هذا الإعلان إلى أسباب أمنية.
في بداياتها، رفضت “جبهة النصرة” العمل السياسي المبني على الديمقراطية، بوصفه “حكماً جاهلياً يخالف تعاليم الإسلام”، ورأت أن الحركات التي سلكت الطرق الديمقراطية، خاصة في تونس ومصر، قد تراجعت عن مبادئها وفشلت في تحقيق مبتغاها. وأكد زعيم الجبهة أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني” أن جماعته تختلف عن جماعة “الإخوان المسلمين”، رغم اشتراكها معها في العديد من المفاهيم. واعتبر أن الأخيرة انحرفت كونها عملت بالديمقراطية ودخلت إلى البرلمان، كما جاء في لقائه مع قناة الجزيرة قبل نحو (10) سنوات.
منذ بداية انطلاقها في سوريا، سعت جبهة النصرة وقائدها العام إلى التمايز عن تنظيم القاعدة، وعملت على إخفاء أفكارها التي تتبنى نظرية القتال خارج الحدود، في محاولة منها للحصول على القبول المحلي والإقليمي.
سرعان ما بدأ الخلاف على السيطرة والنفوذ وعلى التبعية الاقليمية بين جبهة النصرة وتنظيم “داعش” من جهة، وبين جبهة النصرة وباقي الجماعات السورية من جهة أخرى، وباتت الخلافات سمة بارزة في العلاقات بين الجماعات المسلحة في الفترات ما قبل 2020.
منذ بداية انطلاقها في سوريا، سعت “جبهة النصرة” وقائدها العام للتمايز عن تنظيم القاعدة، وعملت على إخفاء أفكارها التي تتبنى نظرية القتال خارج الحدود، في محاولة منها للحصول على القبول المحلي والإقليمي.
عاشت “النصرة” وقائدها العام “أبو محمد الجولاني” هاجس الخوف من باقي الفصائل بسبب الارتباطات الخارجية، مخافة الانقلاب عليها وتصفيتها. بالمقابل، عمدت الجماعات الأخرى إلى محاولة محاصرة الجبهة، لدفعها إلى فك ارتباطها بتنظيم القاعدة وعزلها عسكرياً عن قيادة غرف العمليات، وشرعياً عبر الإفتاء بعدم جواز الانضمام إليها ، ونذكر هنا فتوى “الشيخ أبو بصير الطرطوسي” الذي بالمناسبة بات أحد المؤيدين للجولاني.
عن علاقة جبهة النصرة مع باقي الفصائل
إتبعت “النصرة” نهجاً حاداً مع الفصائل الأخرى، وأطلقت ما بين تشرين الأول/ أكتوبر 2014 وشباط/ فبراير 2015 سلسلة هجمات ضد فصائل “الجيش الحر” في ريفي حلب وإدلب، واستطاعت القضاء على معظمها. وضاعف ذلك قوة الجبهة في تلك المنطقة، كما ضاعف من حساسية العلاقة مع بقية الفصائل. وبعد العام 2015 هاجمت النصرة العديد من الفصائل، أبرزها “الفرقة 13” في معرة النعمان جنوب محافظة إدلب.
من أبرز الفصائل التي حاربتها “جبهة النصرة” (التي أطلقت لاحقاً على نفسها إسم “جبهة فتح الشام”): جبهة ثوار سوريا، حركة حزم، نصرة المظلوم، كتائب الحق، ألوية الأنصار، صقور الغاب، تجمع العزة، لواء الفاتحين، اللواء السابع، الفرقة 13، الفرقة 30، لواء العلمين. وقد استولت على العديد من أسلحة هذه الفصائل ومقراتها.
كما شهدت علاقة “النصرة” مع تنظيم “داعش” معارك وخلافات بدأت في نيسان/ أبريل 2013، مع إعلان تأسيس “الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي رفضتها جبهة النصرة، بالرغم من تبعيتها لها في ذلك الوقت. وأرجع البعض الخلاف في حينها إلى نية لدى الجولاني إعلان الاستقلال عن البغدادي، وتأسيس دولة له في الشام. وأشارت المعطيات إلى أن البغدادي ولدى علمه بذلك، أعلن تبعية “النصرة” لتنظيمه ودمجهما في مسمى “دولة العراق والشام”، وفي ظنه أن الجولاني سيمتثل لهذا الأمر نظراً للبيعة التي في عنقه، غير أن ما حصل هو أن الجولاني رفض الاندماج وأعلن بيعته لزعيم القاعدة، متخطياً بيعة البغدادي.
ثم عادت “جبهة النصرة” وفكت ارتباطها مع تنظيم القاعدة عام (2016)، وعملت تحت مسمى “جبهة فتح الشام” وشاركت في معارك حلب عام 2016.
وعلى ضوء هذا الانفكاك، هاجم أيمن الظواهري، في كلمة صوتية له بعنوان “فلنقاتلهم بنياناً مرصوصاً” عام (2017)، هيئة تحرير الشام وقائدها أبو محمد الجولاني، بعد يومين على اعتقال قيادات أردنية بارزة منشقة عن “الهيئة” وتتبع لـ”القاعدة”. واتهم الظواهري الجولاني بـ”النكث بالعهد”.
مع بداية العام 2017، عُقد لقاء في أستانا، بين وفد من الجماعات المسلحة ووفد من الحكومة السورية السابقة برعاية روسية تركية، وتردد حينها أن الفصائل المشاركة في الاجتماع وافقت على قتال “فتح الشام”، فبادرت الأخيرةُ بعد يوم واحد من الاجتماع في (24 كانون الثاني/ يناير 2017) مقرات جماعة “جيش المجاهدين” و”الجبهة الشامية” و”صقور الشام” ومعسكرات “تجمع فاستقم” و”جيش الإسلام” في ريفي حلب وادلب، خاصةً أن الفصيلين الأخيرين حضرا مؤتمر أستانا.
في خضم تلك الأحداث، أفتى المجلس الإسلامي السوري الذي يرأسه الشيخ (أسامة الرفاعي) ومقره اسطنبول، بوجوب قتال جبهة فتح الشام على أنها فئة باغية، وبحرمة الانضمام إليها.
في وقت كانت المواجهات بين الفصائل على أشدها في ريفي حلب وادلب، أعلنت فصائل عدة أبرزها “جبهة فتح الشام” عن الإنتقال الى عنوان آخر حمل اسم “هيئة تحرير الشام”، وضمت إلى جانب الجبهة جماعات (نورالدين الزنكي، لواء الحق، جبهة أنصار الدين، جيش السنة)، جيش الأحرار المنشق عن “حركة أحرار الشام” بقيادة (أبو صالح الطحان)، بالإضافة إلى عشرات الشخصيات أبرزهم السعودي (عبد الله المحيسني)، (أبو العبد أشداء)، (أبو الحارث المصري)، و(أبو يوسف الحموي). كما انضم إلى التشكيل الجديد العديد من المنشقين عن “أحرار الشام”، أبرزهم: المسؤول الشرعي العام السابق (أبو محمد الصادق)، المسؤول العسكري (أبو إسلام مدرعات)، مسؤول فرع العمليات السابق (أبو هاشم)، المسؤول الاعلامي للجناح العسكري (أبو اليزيد تفتناز).
لم يستمر هذا التشكيل كما هو؛ فسرعان ما دخلت الانشقاقات إليه، وخرجت من الهيئة “حركة نور الدين الزنكي”، و”جيش الأحرار”، بالإضافة إلى العديد من الشخصيات منها السعودي (عبد الله المحيسني).
وكان الإنشقاق الأبرز هو خروج القادة المعروفين ببيعتهم لتنظيم القاعدة، وتأسيسهم جماعة “حراس الدين” في (27 شباط/ فبراير 2018). وباتت جماعة “حراس الدين” الممثل الوحيد للقاعدة في بلاد الشام. ومع حلول العام (2019)، كانت “هيئة تحرير الشام” هي نفسها جبهة النصرة، ولكن من دون تنظيم القاعدة ومن دون الفصائل المحلية السورية التي تكتلت تحت مسمى “جبهة تحرير سوريا” ومن ثم “الجبهة الوطنية للتحرير” في (28 آب/ اغسطس 2018).
مع بداية العام 2019، اندلعت مواجهات واسعة بين “الهيئة” و”الجبهة”، انتهت بسيطرة الأولى بشكل مباشر على معظم منطقة ادلب وريف حلب، وتم الاتفاق على تبعية المنطقة إلى ما سمي “حكومة الإنقاذ” التي تشكلت في تشرين الثاني/ نوفمبر عام (2017)، كبديل عن “الحكومة المؤقتة”، وتبنت الحكومة عام (2018) علماً جديداً يجمع ما بين “علم الثورة”، و”راية التوحيد”. وكان لافتاً في خضم هذه التحولات، عدم معارضة الهيئة لعلم “الثورة”، بعدما كان من المحرمات سابقاً.
مرت “جبهة النصرة لأهل الشام” بالعديد من التحولات، منذ الإعلان عنها عام 2012، يمكن تلخيصها بالتالي:
– الخروج من بيعة البغدادي ورفض الاستجابة لتشكيل “الدولة الإسلامية في العراق والشام” عام 2013، والذي يقضي بتوحيد جناحي القاعدة في العراق وسوريا.
– الخروج من بيعة الظواهري وفك الارتباط بتنظيم القاعدة العالمي والعمل تحت مسمى “جبهة فتح الشام”، في تموز/ يوليو عام 2016.
– تأسيس “هيئة تحرير الشام” بداية العام 2017، بعد معارك شرسة مع الفصائل الأخرى.
في الجزء الثاني: “هيئة تحرير الشام” والدولة
المصدر: موقع المنار