الإرهاب يضرب شرقاً وغرباً بعمليات متزامنة، في الأردن وتركيا وسويسرا وألمانيا وصولاً الى المكسيك، ضمن فورة غير مسبوقة، ولعل اللقاء الذي جَمَع منذ أيام في موسكو، وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا، لافروف و ظريف وأوغلو، هو أعلى قِمَّة يُمكن أن تُعقد على مستوى العالم في مثل هذه الظروف، لما تتمتَّع به هذه الدول من القوَّة الديموغرافية والإقتصادية والعسكرية، وصولاً الى الموقع الجيو- سياسي لكلٍّ منها، مع الأخذ بعين الإعتبار الأحلاف التي ترتبط بها روسيا، وبشكلٍ خاص، “دول البريكس” و “الحلف الأوراسي”.
وإذا كانت تركيا قد قررت مؤخراً، على خلفية الإرهاب الذي بات يضرب يومياتها، أن تلتحق بالمارد الروسي الدولي والمارد الإيراني الإقليمي، فإن وحش الإرهاب الذي يُمارس حالياً سياسة “لامركزية أهداف” تتوزَّع على كل أنحاء العالم، لا بُدَّ لمواجهته من مركزية قرار، وعاصمة هذا القرار هي موسكو.
ما أسفر عنه لقاء موسكو، أعلنه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أن خبراء من روسيا صاغوا وثيقة “إعلان موسكو”، الذي يرقى إلى خارطة طريق لإنهاء الأزمة السورية، وأنه يأمل أن تدعم تركيا وإيران الوثيقة، وأكَّد شويغو أنه فور التوقيع على “إعلان موسكو”، سيتمّ اتخاذ خطوات عاجلة لحل الأزمة السورية، وأن الموقعين على الإعلان سيكونون ضامنين للتسوية، ولعملية وقف إطلاق النار.
وبدوره علَّق الديبلوماسي الروسي السابق “فيتشسلاف ماتوزوف” على “إعلان موسكو” بالقول: بموجب هذا الإعلان، فإن تركيا مُلزمة بالإنكفاء عن دعم الجماعات التابعة لها في شمال سوريا كخطوة أولى.
وإذا كان الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب، قد قرر أن يستلحق نفسه، وإلحاق الولايات المتحدة بـ “منظومة موسكو” لمواجهة الإرهاب، فإن تصريحه الأخير منذ يومين بدا إستعراضياً الى حدود الغوغائية في التعاطي، حيث قال في معرض تعليقه على الهجمات داخل ألمانيا وتركيا وسويسرا: ” أتعهد بمحو الإرهابيين عن وجه الارض، وأُنَدِّد بالهجمات المتواصلة للإرهابيين الاسلاميين على المسيحيين”.
ولأن الإرهاب لا دين له، وضحاياه هم من المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء منذ بدء ما يُسمَّى بـ “الربيع العربي”، قُتلوا على أيدي من يدَّعون الإسلام بدعمٍ من دولٍ تدَّعي الإسلام أو المسيحية، فلا حاجة لتذكير ترامب بما أدلت به هيلاري كلينتون عن صناعة الإرهاب، ومن دعمه وموَّله واستخدمه لتمزيق الأوطان، وتصريح ترامب هو لزوم ما لا يلزم أمام كل الإختبارات التي عايشها العالم لسياسة أميركا قبل “الربيع العربي” وخلاله وبعده.
وإذا كان ترامب جاداً في التحاقه بـ “منظومة موسكو” ولو من باب حفظ وجه أميركا شكلياً، فإن مقررات “إعلان موسكو” ليست إعلانية أو إعلامية بل خطة عمل متكاملة، أطلع الوزير لافروف نظيره الأميركي جون كيري عليها كقاعدة لإستئناف أية محادثات، وهي تتضمن دعم جهود التسوية في حلب واستئناف المحادثات السورية – السورية في العاصمة الكازخستانية بمساعدة روسيا وإيران وتركيا، بهدف التوصُّل الى إتفاق بين الرئيس الأسد والمعارضة، ومواصلة الحرب على التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش والنصرة، مع إقرار المجتمعين بضرورة توسيع وقف إطلاق النار وإنهاء العنف والسير بالحل السياسي، ولعل تركيا التي تعرَّضت سمعتها لنكسة كبيرة على خلفية اغتيال السفير الروسي في أنقرة، قد سلَّمت أمرها لروسيا وأعطى رئيسها رجب طيب أردوغان ما يُشبه الوكالة المطلقة للرئيس بوتين في مكافحة الإرهاب ومعالجة الوضع السوري ضمن مفهوم السيادة السورية وحُكم الرئيس الأسد.
جدِّية روسيا وإيران وحلفائهما تُترجَم من البداية عملياً وعملانياً على الأرض، والنصر الكبير الذي حقَّقه الجيش السوري بدعمٍ من حلفائه في حلب، هو النموذج الواضح عن كيفية مكافحة الإرهاب، والعمليات الكبيرة التي يقوم بها الجيش العراقي مدعوماً من الحشد الشعبي والعشائر في الموصل هي الكفيلة بالقضاء على الإرهابيين، لكن جذور هذا الإرهاب ما زالت تتغذَّى من مصادر يعرفها ترامب والدول الأوروبية، وجرى التغاضي عنها على مدى سنوات الى أن قرع الإرهاب أبواب أميركا وحطَّم كل أبواب أوروبا.
وإذا كانت أميركا بمنأى جزئي عن العمليات الإرهابية المُباشرة، فإن الإرهاب الذي ضرب في الكرك الأردنية، وبرلين، وزوريخ وأنقرة ووصل الى قلب المكسيك، يضع أوروبا المُجاورة للشرق الملتهب أمام استحقاقات مصيرية، سواء من خلال الإرهابيين المستوطنين على أراضيها أو أولائك العائدين من سوريا والعراق وليبيا واليمن ويحملون جنسيات أوروبية، والمشكلة في أوروبا ليست فقط بتصاعد اليمين المتطرِّف وصعوده الى الحُكم، ولا بسياسة الحدود المُغلقة ضمن كل دولة ونسف إتفاقيات الإتحاد الأوروبي والسوق المشتركة ونظام تأشيرة “شينغن”، بل هي كامنة في السياسة المُربَكة للأحزاب الحالية الحاكمة سواء في ألمانيا أو فرنسا أو بلجيكا وصولاً الى هولاندا وسويسرا، والدساتير والقوانين التي تحكُم هذه الدول لجهة القوانين التي لم تعُد مناسبة لمواكبة التطورات، ولعل خير مثال على عدم أهلية أنظمة الحكم هذه لمواجهة الإرهاب، أن القانون البلجيكي كان يعتبر المواطن البلجيكي الذي يُقاتل مع الإرهابيين في سوريا أو العراق أنه ارتكب جنحة خارج البلاد توازي مخالفة سير في قانون العقوبات!
إن وصول مرشَّحَين رئاسيَّين مؤيِّدَين لروسيا في مولدوفا وبلغاريا مؤخراً، ووصول يميني من أصل روسي في النمسا، وهزيمة حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في الإنتخابات المحلية التي حصلت منذ أشهر لصالح اليمين المتطرِّف على خلفية أزمة اللاجئين والإرهاب الذي يهزّ ألمانيا، ويُضاف الى ذلك، الإحتمال الكبير لفوز فرانسوا فيون المقرَّب من الرئيس بوتين في فرنسا بانتخابات ربيع 2107، مما يعني أن أوروبا كما الشرق الأوسط بحاجة لحليف مجاور يضمن الأمن الإقليمي، ولهذا السبب، لن يكون التعويل على أميركا التي لا تحارب الإرهاب بل تحارب به، ولا التعويل على أوروبا المنكفئة عن المواجهة، وتبقى روسيا بحُكم وزنها الدولي وموقعها الجغرافي أقدر الدول لقيادة حلف واقعي لمواجهة الإرهاب والقضاء عليه، ويبقى فلاديمير بوتين ضابط الإيقاع الأكبر على مستوى العالم في زمن انهيار الضوابط…
المصدر: موقع المنار