هنا حلب، وفي حلب رأى أعداء الإنسانية العجب.. هنا حلب، وعلى أسوار قلعتها تقولب النصر وانكتب .. هنا حلب، وفي شوارع أحيائها الشرقية تداعى ظلام إرهابهم فهرب.. هنا حلب، ووفق توقيت حلب يعيد الغرب ضبط ساعته ويلزم به أدواته من عثمانيين ووهابيين محسوبين على العرب.. هنا حلب وهي تجهز فستانها المزركش بنجمتين خضراوين وتقول للعالم أجمع: أقدم مدن الحضارة البشرية ستبقى سورية الانتماء والوجه واليد واللسان.. ستبقى عنواناً لإنسانية الإنسان وشاهداً على إرهاب طواغيت الكون المندحرين في الميدان.. حلب كانت وستبقى أيقونة هذا الزمان وكل زمان، ستبقى أبية شامخة مكللة بتاج الفخر والنصر في كل ميدان، وهاهي تثبت دقة ما قاله سيد الوطن بأنها ستكون مقبرة لأحلام أردوغان، يذود عنها أسود يهابهم الموت، ويخشاهم الردى، وقد عقدوا العزم على تطهير كل ذرة تراب سورية من رجس الظلاميين والنازيين الجدد، وعاهدوا الله والوطن أن يسوِّروا حدوده بأجسادهم المكللة بالعافية وهاماتهم التي تصل أرض الإباء بسماء الكبرياء غير عابئين بالسعار الإعلامي الذي أصاب أطراف التآمر والعدوان قادة وحلفاء وأدوات تنفيذية انتهت صلاحيتها وفَقَدَ مستخدمها كل أمل في تغيير اللوحة الميدانية التي رسمها رجال الجيش العربي السوري والقوى الرديفة والحليفة في ساحات المواجهة الميدانية بعد إعداد كل ما يلزم لتحقيق النصر الناجز بأقل تكلفة وأعلى مردودية وبزمن قياسي أصاب المايسترو الصهيو- أمريكي بالدوار، فأخذ يتخبط في مواقفه وتصريحاته، وعكست وسائل إعلامه هذا التخبط والارتباك والخوف من تداعيات النصر المنجز في حلب عبر هستيريا التصريحات التي لا تخلو من أوامر عمليات للمجاميع الإرهابية المسلحة وهي تفقد ما تبقى من قدرة ليس على التمدد والعدوان فحسب، بل على البقاء في الأماكن التي تحصنت بها وزادتها تحصيناً وتسليحاً منذ سنوات، وخزنت فيها كل ما يمكّنها من البقاء في وضع قتالي مريح لأشهر وسنوات، لكن بطولات رجال الجيش العربي السوري عصفت بحسابات المجاميع الإرهابية المسلحة وبحسابات مشغليها فجعلتها كعصف مأكول.
عندما يتحول الزمن إلى تاريخ
ما قبل تطهير حلب شيء، وما بعد التطهير والعودة إلى حضن وطن السيادة والكرامة شيء آخر، فالهوة كبيرة بين الأمرين، وشتان بين الواقع الذي كانت تنتشر قيه جحافل الإرهاب التكفيري في الأحياء الشرقية من حلب وتتخذ عشرات آلاف المواطنين رهائن ودروعاً بشرية، وبين واقع اليوم بعد أن سُحِقَتْ تلك الجحافل الإرهابية وخرجت صاغرة تحت ضربات الجيش العربي السوري ذليلة مدحورة على الرغم من كل ما بذلته واشنطن ومن يدور في فلكها لمنع حدوث ما يحدث، واستنفدت كل السبل والوسائل لضمان الاستمرار في الاستثمار بذاك الجسد الإرهابي المتداعي بتسارعات لم تنفع في وقفها كل محاولات التضليل الاستراتيجي إعلامياً وعسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، وعندما يستنفر الأمريكي والإسرائيلي والأطلسي والعثماني ومشيخات الكاراكوزات الخليجية ويتحدثون عن حلب ويسعون لتأليب العالم ضد الدولة السورية ومحاولة منع انهيار الإرهابيين، أو إبطاء عملية الانهيار على الأقل، فهذا يؤكد كم كان أولئك جميعاً يبنون على «اختطاف» حلب وإبقائها خارج سيادة الدولة السورية، وعندما يرفع المسؤولون الأمريكيون، وعلى مستوى وزير الخارجية، الصوت عالياً ويهددون بأن انتصار الجيش العربي السوري في حلب «لا يعني نهاية الحرب التي ستطول وتطول إن لم تؤخذ وجهة نظر واشنطن بالحسبان» فهذا يعني أن الأحلام والآمال التي كانت مبنية على «ارتهان» حلب لإرادة أعداء الوطن والأمة أكبر مما قد يخطر على الذهن، ومن المفيد هنا التذكير بما صرح به رئيس الاستخبارات العسكرية الصهيونية منذ أن قطع الجيش العربي السوري طريق الكاستيلو بأن انتصار الجيش العربي السوري في حلب يعني خلو أدراج واشنطن من المخططات في كامل المنطقة، وقد ازدادت الهستيريا الصهيونية بعد الحسم الميداني الذي أنجزه أبطال الجيش العربي السوري فأرغمت جحافل إرهابهم الممنهج على الانصياع لمنطق سيادة الدولة السورية والتسليم بالهزيمة المدوية التي ألمت بالإرهاب و داعميه ومموليه، ويمكن لمن يود معرفة أهمية ذلك أن يتابع وسائل الإعلام الصهيونية التي أجمعت على أن نجاح الجيش العربي السوري في طرد المسلحين من حلب يعني ثلاثة عناوين رئيسة وهي: انتصار الدولة السورية في هذه الحرب التي تعصف بسورية منذ آذار 2011، وازدياد وزن إيران في المنطقة، وتحول حزب الله إلى قوة عسكرية قادرة على نمذجة التجربة السورية بتكامل أداء جيش نظامي مع مهارات مقاومة قادرة على ضبط إيقاعها الميداني بما ينسجم وقرار قيادتها السياسية، وهذا يشكل أهم الأخطار الوجودية التي على حكام تل أبيب التعامل معها كواقع قائم.
إن قراءة موضوعية لتصريحات المسؤولين الأمريكيين والأطلسيين والأمميين، وما أجمعت عليه الصحافة الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية تؤكد جملة من الحقائق المهمة ومنها:
1- اعتراف صريح بانتصار الدولة السورية في هذه المعركة المفصلية في الحرب المركبة المفروضة على سورية، وهذا يعني أن حلب كانت حجر الزاوية ورافعة المشروع التفتيتي، وبسقوط الإرهاب في حلب تسقط بقية الحلقات والمتممات بشكل حتمي، وإن كان ذلك يتطلب مقاربات متعددة وفق تطور الأحداث وتداعياتها.
2- ازدياد أهمية الدور الإيراني إقليمياً والدور الروسي إقليمياً ودولياً تحصيل حاصل، لأن روسيا وإيران شريكتان في الحرب ضد الإرهاب على الجغرافيا السورية، وانتصار سورية في هذه الحرب يعني انحسار الدور الفاعل للقوى الإقليمية المشتركة مع واشنطن ضد سورية، أي انحسار الدور السعودي والقطري والتركي.
3- الخوف والهلع من تعاظم قوة حزب الله يشكل قاسماً مشتركاً لدى جميع المسؤولين الإسرائيليين، وهو هلع موضوعي ومسوغ علمياً، لأن الخبرات القتالية التي راكمها حزب الله كفيلة بجسر هوة التفوق الجوي الإسرائيلي، وإرغام أصحاب الرؤوس الحامية على إعادة الحسابات أكثر من مرة قبل الإقدام على أي رعونة جديدة، ولا أدل على ذلك من انشغال المسؤولين عن الداخل الإسرائيلي بمسألة كيفية إخلاء المستوطنات في حال قام حزب الله بالاقتحام برياً.
4- إذا أضفنا إلى كل ما تقدم انهيار أحلام أردوغان «باستعادة أمجاد السلطنة العثمانية» وإلى غير رجعة، والنتائج الحتمية المترتبة على عودة من يبقى حياً من عشرات الآلاف من الإرهابيين الذين زجوا بهم في الجغرافيا السورية، ومن البديهي أن تركيا بوصفها العمق الاستراتيجي لتلك المجاميع الإرهابية المسلحة هي المنفذ الوحيد لهروب أولئك وعودتهم من حيث أتوا على أقل تقدير، وفي هذه الحالة يتضح عمق الأزمة الضاغطة على نظام أردوغان بغض النظر عن العربدات التي يمارسها هنا وهناك، كيلا يعترف بحقيقة ما أصبح أمراً قائماً وغير قابل لأي تبدلات نوعية يحلم بها أردوغان وزبانيته.
5- المماطلة والتسويف ونقض ما يتم الاتفاق عليه من قبل المجاميع الإرهابية لا يمكن أن يتم إلا بإشراف مباشر من قبل الراعين المباشرين، الأمريكي والصهيوني ووكلائهما في هذه الحرب التي تتجه خواتيمها، وفق بوصلة سورية ومحور المقاومة، وواهمٌ من يظن أن إخراج ضباط الاستخبارات الأجانب الذين كانوا يخططون للأعمال القتالية للإرهابيين ويشرفون عليها يعني فقدان الدولة السورية الأوراق الفاعلة والمؤثرة، والأيام القادمة كفيلة ببلورة الكثير من المعطيات التي تؤكد أن ما بعد تطهير حلب ليس كما قبله، وكما أشار السيد الرئيس بشار الأسد إلى أن الأحداث المهمة تحول الزمن إلى تاريخ، سيكون من المصطلحات المعتمدة: قبل تحرير حلب وبعد تحريرها، حيث تحول الزمن إلى تاريخ يكتبه أبناء سورية المؤمنون بانتمائهم لوطنهم، والواثقون بحتمية انتصارهم الذي ارتسمت معالمه الرئيسة من بوابات حلب المطهرة من رجس المجاميع الإرهابية التي عاثت قتلاً وخراباً وتدميراً وإجراماً وإرهاباً ، وبإخراجها من حلب عنوة تبدأ عملية تجهيز البيئة الاستراتيجية المطلوبة لنظام عالمي جديد لا مكان فيه للأحادية القطبية.
*خبير استراتيجي
المصدر: صحيفة تشرين السورية