لا شك ان المعركة القانونية والقضائية اليوم ضد العدو الإسرائيلي في ظل ما ارتكبه ويرتكبه من جرائم في قطاع غزة، باتت تشكل حلقة من حلقات الصراع مع هذا العدو المتوحش وساحة من ساحات الضغط عليه في ظل كل الغطاء الذي يحظى به من قبل الادارة الاميركية والأنظمة الغربية، وانطلاقا من ذلك يأتي التركيز على ما تقوم به محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية خاصة بعد القرارات التي تم اتخاذها فيما يتعلق بالعدوان على غزة.
وبالسياق، نشر مركز “يوفيد” دراسة قانونية بعنوان “معركة المحكمة الجنائية الدولية مع نتنياهو – اختبار للعدالة الجنائية الدولية”، وتتحدث الدراسة عن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، لارتكابهما “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، وقد شمل الطلب أيضا 3 من قادة المقاومة الفلسطينية حماس كنوع من تثبيت التوازن في توجيه التهم بين الطرفين مما يطرح جدلا قانونيا وسياسيا واخلاقيا واسعا في الأوساط القانونية بشأن مسألة الخلط بين من يرتكب الجرائم الدولية وهو قوة احتلال، وبين من يدافع عن حقوقه ويحمي شعبه وأرضه كمقاومة مشروعة معترف بحقها دوليا.
بدا هذا الاجراء في التوقيت والظروف، شكل من اشكال الضغط الدولي على الكيان الصهيوني لإيقاف جرائمه وانتهاكاته الجسيمة بحق المدنيين في غزة التي أصبحت مشهدا محرجا للحكومات الغربية وخاصة الاوروبية. كما انه عبّر واقعيا عن تراجع مكانة هذا الكيان المدلل لدى الغرب، على الساحة الدولية إلى أدنى مستوى على مر تاريخه، فلطالما اعتقد القادة الإسرائيليون أنه لا يمكن المساس بهم، لكن الأمر لم يعد كذلك.
وتنظر الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية الآن في طلب خان، لكن الجدول الزمني بشأن قرارها غير واضحـ إنّ أوامر الاعتقال بحق نتانياهو وغالانت من شأنها أن تجعل المسؤولين عرضة للتوقيف في الدول الـ 124 الأعضاء في المحكمة (ليس من بينهم الولايات المتحدة وإسرائيل)، وهذا يمثل في حد ذاته لحظة “غير مسبوقة” بالنسبة للمحكمة، التي أصدرت أوامر اعتقال بحق رؤساء دول من خارج الدول الغربية، بما في ذلك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، “لكنها نادرا ما لاحقت مسؤولين اسرائيليين.
ولاحظت الدراسة ان “بيان المدعي العام حمل جملة من المفردات التي تشير إلى اتجاهات عمل التحقيق الذي لم يناقش كافة الانتهاكات الإسرائيلية المرتكبة ضد سكان قطاع غزة، ويمكن إجمال أهم الملاحظات والمضامين في البيان: التركيز على جريمة التجويع، غياب الاتهام بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، نزاع مسلح دولي(بين اسرائيل وفلسطين) وغير دولي(بين اسرائيل وحماس)، حق الدفاع عن النفس(فخان اعتبر ان لإسرائيل الحق في اتخاذ إجراءات للدفاع عن سكانها، منتقدا الأساليب التي اختارها الكيان الصهيوني لتحقيق أهدافه في غزة التي كان من بينها تعمد التسبب في التجويع والموت)”.
ورأت الدراسة ان “الطلب الذي تقدم به كريم خان يشكل خطوة غير مسبوقة وضعت الكيان الصهيوني وناتنياهو تحديدا في موقف حرج دوليا”.
ومن ثم شرحت الدراسة ردود الأفعال حول موقف الادعاء العام للمحكمة الجنائية، فقد اشارت الى ردود الأفعال الامريكية خاصة إدارة الرئيس جو بايدن التي تعتقد بوجوب فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ما يؤكد الانحياز التام لكيان العدو الاسرائيلي ومحاولة لتعطيل عمل العدالة الدولية.
كما اشارت الدراسة الى الردود الاوروبية: فيما كانت ردود فعل الحكومات الأوروبية “أكثر صمتا” تجاه التطورات، التي أشارت إلى إصدار دول من بينها فرنسا وألمانيا بيانات تؤيد استقلال المحكمة الجنائية الدولية، وتأكيد آخرين مثل إسبانيا وبلجيكا وسويسرا على دعمهم للمحكمة.
كما تحدثت الدراسة عن الرد الإسرائيلي: فمنذ اللحظة الأولى لقرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أعرب مسؤولون إسرائيليون عن غضبهم واحتجاجهم. وردّ ناتنياهو في تغريدة عبر منصة “إكس”، إنّ “قرارات المحكمة الجنائية لن تؤثر على تصرّفات إسرائيل، وإن إسرائيل لن تقبل بمحاولة النيل من حقها في الدفاع عن نفسها”، بحسب تعبيره، وأمام مخاوف ناتنياهو وقلقه من تداعيات قرار الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، يحاول بعض خبراء القانون الدولي الصهاينة في داخل الكيان تقديم خطة لمواجهة هذا الاتهام.
وتسهب الدراسة في البحث بالتداعيات المؤتية عن ملاحقة قادة كيان العدو، باعتبار انه اختبار حقيقي للعدالة الجنائية الدولية، وتقول إن “ما يعانيه الكيان الصهيوني اليوم، بل منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، هو انه فقد الصورة النمطية التي حفظها العالم (خاصة الغرب) حول أنه نموذج “لدولة ديمقراطية متطورة تنشد السلام لكنها محاطة بالأعداء”. والملاحظ، طبقا للتطورات والمتغيرات التي شهدها العالم منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، أن الرأي العام العالمي بدأ يتحرك ضد السردية الصهيونية الإسرائيلية بفعالية أكبر، وباتت التهم الموجهة للكيان أكثر وضوحا بأنه يرتكب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين في قطاع غزة”.
وأمام الضغط الدولي الناتج عن استمرار الكيان في ممارسة كل أنواع الانتهاكات الجسيمة بحق السكان العزل في قطاع غزة واستهدافه للمدنيين بشكل مباشر، وأمام الضغط أيضا الذي تمارسه المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية بشأن وقف الحرب والعمليات العسكرية، تبدو الأمور أكثر تعقيدا للكيان الصهيوني ولناتنياهو ووزرائه وضباطه.
وترى الدراسة انه من هذا المنطلق، تصب مخاوف الكيان الصهيوني في العناوين التالية:
-اصدار مذكرات اعتقال يعني حصار للمسؤولين الإسرائيليين، وتقييد لتحركاتهم وتواصلهم مع الخارج.
-مزيد من العزلة الدولية لناتنياهو وحكومته.
-فقدان لسبل الدفاع عن النفس الذي لم يعد له أي معنى سياسي ولا قانوني.
-ان تكون المحكمة الجنائية الدولية أداة ضغط أمريكية لمحاصرة ناتنياهو وفرض شروط عليه وتقييد سياسته.
-تثبيت الإدانة الدولية المتناغمة مع الراي العام العالمي خاصة الغربي (امريكي واوروبي) الذي كسر جدا الصمت وبدأ ينتقد “إسرائيل” بشكل علني ودون تردد.
-فقدان الصورة النمطية التي بنتها واسست لها الصهيونية العالمية من اجل تثبيت قاعدة أن كل من ينتقد “إسرائيل” هو معادي للسامية.
وترى الدراسة ان “تحرك الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية هو اختبار للنظام الدولي الذي يعيش مخاضا كبيرا اليوم ومتغيرات كثيرة اسقطت فيها كل الأقنعة المزيفة التي كان يتغنى أصحابها بالحقوق الإنسانية والحريات”، ولفتت الى ان “هذه الخطوة تمثل:
1-اختبارا للعدالة الجنائية الدولية التي يمثلها القضاء الدولي الذي سوّق منشئوه لسنوات طويلة للمحاسبة والمساءلة والعقاب على الجرائم والانتهاكات الدولية التي يرتكبها الافراد باسم الدول.
2-اختبار للعالم الذي يتغنى باحترام حقوق الانسان وبضرورة المحافظة والالتزام بالقوانين الدولية الإنسانية المنتهكة اليوم من قبل “كيان عنصري محتل” لا يعترف بالقوانين الدولية ولا يلتزم بأحكامها.
3-ستبرز مدى قدرة المنظمات ومؤسسات القضاء الدولي على مواجهة الضغوط والتهديدات الامريكية، وعدم الانحراف على المسار القانوني المعتمد والمصادق عليه من قبل 124 دولة في العالم تمثل اغلبية مطلقة للمجتمع الدولي.
4-ستكشف مدى قدرة المحكمة الجنائية الدولية على تجاوز مأزق ازدواجية المعايير في التعامل مع الكيان الصهيوني “كدولة مجرمة”-عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة- تنتهك بقوة كل القوانين والالتزامات الدولية.
5-اختبار لمدى استقلالية المحكمة الجنائية وقضاتها في اتخاذ قرارات الإدانة لناتنياهو ووزراءه وضباطه وجلبهم أمام المحكمة لمحاسبتهم.
وتخلص الدراسة ان “هذه الخطوة تبقى محدودة، تتطلب حرصا دوليا حقيقيا على محاسبة الكيان الصهيوني، كما أنها اختبار صعب ومعقد بالنسبة لحلفاء هذا الكيان في الغرب وخاصة بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية التي تبدو ردود الأفعال الصادرة من ادارتها مستهجنة”، وتابعت “تبقى هذه الخطوة التي أعلن عنها مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، خطوة جريئة، لكنها تبدو مستغربة في التوقيت، خاصة وانه مر على الحرب أكثر من 7 أشهر، ارتكبت فيها كل أنواع الانتهاكات ولم يصدر عن الادعاء نفسه أي راي او قرار”.
وتعتبر الدراسة ان “التهديدات الامريكية للمحكمة الجنائية ولقضاتها، صورة من صور البروباغندا التي اعتاد الأمريكي على استخدامها في المآزق والصراعات، لتحريف مسار المعركة واللعب على الحلول المؤقتة، وقد تكون فرصة لبايدن وادارته المأزومة لضرب عصفورين بحجر واحد، لجم ناتنياهو ووزير حربه، وتهدئة الرأي العام (خاصة في الداخل الأمريكي) الغاضب والمستنكر والذي يبدو انه سيكلف بايدن ثما غاليا في الانتخابات المصيرية المقبلة”.
المصدر: مركز يوفيد