وفي اليوم الأربعين للعدوان الاسرائيلي على غزة. يواصل الأخير اسقاط كل الخطوط الحمراء، وهذا إن دلّ على شيء فعلى خواء في جعبة الانجازات العسكرية لدى العدو، إذ يقف مربكاً مستميتاً لايجاد أي ورقة رابحة يلوّح بها أمام رأيه العام المثقل بهزيمة السابع من تشرين الأول/اكتوبر.
وجد العدو في مجمع الشفاء الطبي الأكبر في القطاع انجازه الكبير. بدأ منذ فترة بالترويج عبر وسائل إعلامه وعبر وسائل إعلام غربية وبعض وسائل الاعلام العربية ايضاً لسردية تقول إن حركة المقاومة الإسلامية حماس “اتخذت من المجمع قاعدة أساسية لها، أي إن هناك أنفاقاً تحت المجمع وأن الأخير هو منطلق لصواريخ المقاومة، مخزناً لأسلحتها، حتى أنه قد يكون مقراً لاحتجاز عدد من الرهائن”.
لماذا كل ذلك؟ الجواب بغاية البساطة، في هذه السردية تبرير لعمل تدينه كل القوانين والأعراف الدولية والانسانية، إنها مستشفى وهي تحولت ايضاً لمكان يؤي أكثر من خمسين ألف نازح. من الضروري أن تدخل قوات العدو إليه وتجعله مسرحاً لانتصارها المزعوم على حماس، وهذا ما حدث بعد أيام من القصف العنيف للمشفى ومحيطه ارتكب خلالها مجازر مروعة بحق أطباء، ممرضين، مرضى كبار وأطفال وخدّج، مع تصدّ ومواجهات بطولية مع المقاومين كبّدت العدو خسائر كبيرة.
وفي صباح اليوم الأربعين، دخل الاحتلال إلى “الشفاء”، وصمت العالم كما في كل مرة. لكن صوت إعلامه كان لافتاً بعد الاقتحام اليوم: لا محتجزين، لا مسلحين، لا سلاح.
حركة المقاومة الإسلامية حماس أكدت أن “زَعْم الاحتلال وجود أسلحة في مشفى الشفاء كذبٌ مفضوح ومسرحيةٌ لم تعد تنطلي على أحد”. وأضافت الحركة، في تصريح صحفي، أن مزاعم الاحتلال الصهيوني “ما هو إلاّ استمرارٌ للكذب والدعاية الرخيصة، التي يحاول من خلالها إعطاء مبرّر لجريمته الرامية لتدمير القطاع الصحي في غزّة؛ وهي نفسها الدّعاية التافهة التي ساقها أثناء اقتحامه لمستشفى الرنتيسي للأطفال، حيث يقوم الاحتلال بوضع أسلحة في المكان، ونسْج مسرحيّة هزيلة لم تعد تنطلي على أحد”.
وأكدت حركة حماس “كرّرنا أكثر من مرّة، ومنذ أسبوعين دعوتنا للأمم المتحدة والمنظمات الدولية لتشكيل لجنة دولية للاطلاع على أوضاع المستشفيات والوقوف على كذب رواية الاحتلال وادّعاءاته الباطلة، لأننا نُدْرك مستوى الكذب والتضليل الذي يسوقه الاحتلال، للتغطية على جرائمه بحقّ الأطفال والنساء والمدنيين العزّل”.
وفي السياق، قال مدير مجمع الشفاء الطبي بغزة محمد أبو سلمية إن جيش الاحتلال لا يزال ينتشر في عدد من مباني المستشفى، مؤكدا بقوله “لا نستطيع الوصول للصيدلية لإسعاف المرضى، فالاحتلال يطلق النار على كل من يتحرك”.
وأوضح مدير مجمع الشفاء بغزة للجزيرة أن جيش الاحتلال استجوب عددا من العاملين في عدد من أقسام المستشفى، لافتا إلى أن المياه والكهرباء والأكسجين مقطوعة عن كل أقسام المستشفى.
وأضاف أبو سلمية أن أقسام المستشفى مغلقة على المحتجزين فيها، ولا يمكن الخروج منها أو الدخول إليها، مؤكدا عدم استطاعتهم التواصل مع الأطباء للاستفسار عن وضع النزلاء خصوصا الأطفال الخدج.
وقالت مصادر من داخل مستشفى الشفاء بغزة إن جيش الاحتلال يحتجز أكثر من 200 فلسطيني في ساحة المستشفى.
وأوضحت المصادر أن جيش الاحتلال اعتقل بعض المحتجزين داخل المستشفى واقتادهم خارجه، مشيرة إلى إجبار القوات الإسرائيلية المحتجزين على خلع ملابسهم.
من جهته، قال رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في تحد وقح لكل الأعراف الدولية، إنهم دخلوا مستشفى الشفاء “رغم المطالبة بعدم دخوله”، مشيراً إلى أنه “لا يوجد مكان في غزة لن نصل إليه وسنقضي على حماس ونعيد المخطوفين”، حسب زعمه. وهنا تجدر الإشارة إلى سقوط عشرات القتلى في صفوف جنوده منذ بدء العملية البرية إضافة إلى تحول عشرات الآليات والدبابات إلى ركام.
مواقف دولية واقليمية وأممية… التنديد سيد الموقف
وتصاعد التنديد الدولي إزاء اقتحام الاحتلال مجمع الشفاء، في حين قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث إن “المستشفيات ليست ساحة حرب”. وفي تغريدة على منصة “إكس” (تويتر سابقاً)، قال غريفيث “ينتابني الذعر حيال أنباء الاقتحام العسكري لمستشفى الشفاء”.
وشدد غريفيث على ضرورة أن تكون لحماية الأطفال حديثي الولادة والمرضى والطواقم الطبية وجميع المدنيين الأولوية على كافة الاهتمامات الأخرى.
بدورها، نددت المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) كاثرين راسل بالمشاهد المفجعة التي رأتها خلال زيارة أجرتها إلى قطاع غزة في خضم الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، مطالبة بـ”إيقاف هذا الرعب”.
وقالت راسل التي زارت جنوب القطاع “إن ما رأيته وسمعته كان مفجعا. لقد تحملوا القصف والخسارة والنزوح المتكرر. داخل القطاع لا يوجد مكان آمن ليلجأ إليه أطفال غزة المليون”، مضيفة “وحدهم أطراف النزاع هم الذين يمكنهم إيقاف هذا الرعب حقا”.
عربيا، حمّل الأردن العدو مسؤولية حماية المدنيين والطواقم الطبية العاملة في مستشفى الشفاء، وقال إن الاقتحام “انتهاك للقانون الدولي الإنساني وخصوصا اتفاقية جنيف”.
وشددت الخارجية الأردنية في بيان على أن الأوضاع الخطيرة في غزة “تفرض على مجلس الأمن تحمل مسؤوليته القانونية”. وطالبت المجتمع الدولي “بتحمل مسؤولياته الأخلاقية والعمل على الضغط على إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، لوقف عدوانها المتواصل وحربها واستهدافها للمدنيين وخصوصا النساء والأطفال والتي لا يجوز تبريرها تحت أي مبرر أو ذريعة”.
من جهتها، طالبت وزارة الخارجية الفلسطينية بتدخل دولي عاجل لتوفير الحماية للطواقم الطبية والمرضى والنازحين في مجمع الشفاء الطبي.
وقالت الخارجية في بيان إن الاقتحام يمثل “انتهاكا صارخا للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف، وامتدادا لمجمل الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد شعبنا”.
وحمّلت الخارجية الفلسطينية حكومة العدو “المسؤولية الكاملة عن سلامة الطواقم الطبية وآلاف المرضى والجرحى والأطفال بمن فيهم الخدّج والنازحين.. في المجمع”.
الرئاسة التركية قالت إن الرئيس رجب طيب أردوغان أبلغ رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني أن أنقرة تعمل على ضمان معاقبة “إسرائيل” في المحاكم الدولية.
وأضافت الرئاسة التركية أن أردوغان أبلغ ميلوني أن بلاده تتوقع دعما إيطالياً لوقف إطلاق نار في غزة.
عن مستشفى الشفاء
مجمع الشفاء هو مجمع حكومي تابع لوزارة الصحة الفلسطينية، يعدّ أكبر مؤسسة صحية تقدم خدمات طبية في قطاع غزة. تأسس عام 1946 وخضع للاحتلال عام 1967، ثم للسلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو. وتطور مع الوقت فأصبح أكبر مجمع طبي يضم 3 مستشفيات متخصصة ويعمل فيه 25% من العاملين في المستشفيات بقطاع غزة كله.
ويعود تاريخ بناء المستشفى إلى منتصف القرن الـ20، تحديداً عام 1946، حين أنشأ الانتداب البريطاني المستشفى في مدينة غزة، وكان في شكله الأولي أكشاكا صغيرة تهدف إلى تقديم خدمات الرعاية الطبية للمرضى.
بعد انتهاء الانتداب البريطاني أصبح المستشفى تابعا للإدارة المصرية، وفي ذلك الوقت توسّعت أقسامه وزاد عدد أسرّته، واستمر تحت إدارة المصريين ما يقارب عقدين من الزمن.
عام 1967 أصبح المستشفى تابعا للاحتلال الإسرائيلي بعد سيطرته على المنطقة في أعقاب نكسة يونيو/حزيران، وقرر حينها إعادة بنائه على نحو مشابه للمستشفيات الإسرائيلية.
أصبح المستشفى يضم غرفاً أكثر للمرضى، وكل غرفة تتسع لـ3 مرضى كحد أقصى، إلا أن هذا العدد كان محدودا مقارنة بالمنطقة التي يغطيها المستشفى، لا سيما أن معظم المستشفيات الموجودة الآن لم تكن موجودة في ذلك الوقت، وبقي على حاله هذه في الثمانينيات ومنتصف التسعينيات.
ومع بدء الانتفاضة الأولى (ديسمبر/كانون الأول 1987) برز دور المستشفى كنقطة مواجهة أساسية بين عناصر الجيش والفلسطينيين، فقد حدثت فيه أول مواجهة في الانتفاضة حين اقتحمه الطلاب الفلسطينيون لمواجهة جنود الاحتلال، إذ كان مركز تجمع للجيش، وحاول الجنود الإسرائيليون خلال الانتفاضة سرقة جثامين الشهداء الفلسطينيين من المستشفى.
وحين وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو اتفاقية أوسلو عام 1993، أصبح المستشفى تابعا لإدارة السلطة الفلسطينية، وتلقى حينها دعما يابانيا وأوروبيا للتطوير وإنشاء مبان جديدة، وتوسيع الغرف، ثم شهد المستشفى بعدها عدة عمليات تطوير حولته إلى مجمع طبي يضم عدة مستشفيات متخصصة.
وفي عام 2023 كان الهيكل الخارجي للمستشفى يحتاج إلى ترميم، فقد كانت أجزاء من الخرسانة تتساقط من الأسقف والجدران وبسبب عدم القدرة على تأمين المواد نتيجة الحصار وعدم وجود دعم مادي لم تتم عملية الترميم.
دوره في الحروب
يبلغ عدد العاملين في مجمع الشفاء الطبي ما يقارب ربع عدد العاملين في جميع مستشفيات القطاع، إذ يعمل فيه حوالي 1500 موظف، منهم ما يزيد على 500 طبيب، و760 ممرضا، و32 صيدلانيا، إضافة إلى 200 موظف إداري.
يؤدي مجمع الشفاء دوراً أساسياً في الحروب على قطاع غزة، إذ يستقبل المصابين وتجرى فيه العمليات الجراحية.
ففي حرب طوفان الأقصى 2023 بلغت القدرة الاستيعابية للمستشفى 164%؛ إذ كانت أعداد الإصابات مهولة ومستمرة نتيجة القصف الإسرائيلي المتواصل، وعانى المستشفى من وضع كارثي نتيجة نقص الوقود والدواء، وكثرة الجرحى وتوافد أعداد كبيرة من المصابين عليه والتعب الذي طال الكادر الطبي نتيجة العمل المتواصل.
إضافة إلى ذلك يجتمع عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين في مجمع الشفاء الطبي على اعتباره مكانا آمنا إلى حد ما، ونقطة يسهل منها الوصول إلى بقية المناطق والأحياء، كما أنه مكان يسهل عليهم تغطية الحدث من خلال القرب من الكادر الطبي ومن الحالات التي يتم إسعافها.
ويؤدي المستشفى دورا أساسيا في إيواء العائلات، إذ يلجأ إليه المواطنون والعائلات بسبب القصف العنيف على الأحياء السكنية والبيوت، ويبيتون في الساحات الخارجية، وفي عدوان 2021 جهز المجمع خياما لإيواء العائلات النازحة في الساحة الخلفية.
وفي طوفان الأقصى عام 2023 نزح إليه أكثر من 35 ألف مواطن احتماء من الغارات التي استهدفت منازلهم، وتبيت العائلات في ممرات المستشفى وغرفه وساحاته.
مجزرة
في يوم الجمعة الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 استهدف الاحتلال سيارات الإسعاف أمام بوابة مجمع الشفاء الطبي، مما أدى إلى سقوط عشرات المواطنين بين شهيد وجريح، وكان من بين المصابين أطباء ومسعفون ومصابون ومواطنون مرافقون للجرحى تجمعوا حول سيارات الإسعاف في مدخل المجمع.
واعترف الجيش الإسرائيلي باستهداف سيارات الإسعاف عند بوابة المجمع الطبي مدعيا “أنها تستخدم من قبل خلية تابعة لحماس”.
وتظهر الصور التي نقلتها وكالات الأنباء أن المستهدفين هم من المدنيين والجرحى والأطباء والمسعفين.
وكان الاحتلال قد استهدف في وقت سابق في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 محيط مجمع الشفاء الطبي، مما أدى إلى إلحاق الضرر بقسم الحضانة في المجمع.
المصدر: موقع المنار