ليست مجرد شريط ساحلي على البحر الأبيض المتوسط، وعلى الحدود مع سيناء، فمنطقة غزة منطقة استراتيجية، تعتبر بوابة بلاد الشام من الجنوب الغربي، وصلة الوصل بين آسيا وأفريقيا، وفيها جرت أهم المعارك التي غيرت وجه المنطقة، وابرزها معارك غزة الأولى والثانية والثالثة بين الجيش العثماني والاحتلال البريطاني.
مهد سقوط غزة عام 1918، لدخول القوات البريطانية إلى القدس، وخروجها عن الحكم العربي، وفرض البريطانيون عليها كما باقي المدن الفلسطيني قوانين الطوارئ، الأكثر عنصرية في العصر الحديث، والتي مهدت لقيام دولة الإحتلال عام 1948.
شاركت غزة في الثورات العربية ضد البريطانيين وضد الهجرة اليهودية، وابرزها الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. ونجت من الإحتلال الصهيوني، حيث بقيت تحت السيطرة المصرية حتى نكسة حزيران عام 1967، عندما احتل الصهاينة الضفة الغربية وباقي القدس وغزة.
وتعرضت غزة ابان العدوان الثلاثي على مصر عام 1965 (فرنسا، بريطانيا، الكيان الإسرائيلي)، إلى العديد من الغارات الجوية، ابرزها في خان يونس ورفح، ارتقى خلالها العديد من الشهداء، واحتل العدو غزة، ونفذ فيها عشرات المجازر الجماعية، حيث بلغ عدد الشهداء في تلك الفترة (1000 شهيد)، قبل أن ينسحب بعد فترة وجيزة.
وبسبب المقاومة التي أبداها أهالي غزة واللاجئون من مناطق فلسطين وابرزها من يافا واللد، عينت سلطات الإحتلال ارئيل شارون على رأس المنطقة الجنوبية المحتلة، بعد احتلاله عام 1967، ومن ضمنها قطاع غزة، ورفع شارون شعار “سحق المقاومة في غزة”، حيث فرض تدابير عسكرية قاسية، وأنشأ معسكرات اعتقال جماعية في صحراء سيناء، ضمت أكثر من (12 الف) مواطن فلسطيني، بينهم نساء وأطفال، بالإضافة إلى ارتكاب مجازر عديدة، بحق الفلسطينيين في القطاع، وبحق اللاجئين في المخيمات.
كما بنى شارون العديد من المستوطنات الصهيونية في القطاع، والتي كانت عبارة عن قواعد عسكرية متقدمة، ومارس هؤلاء المستوطنون ابشع صور الإنتهاكات بحق الشعب الفلسطيني.
مقاومة غزة لم تستسلم، رغم كل تلك الإجراءات على مدى السنين الممتدة من (1918-1987)، حيث انطلقت من مخيم جباليا شرارة إنتفاضة الحجارة عام 1987، وقدمت غزة خلال هذه الأحداث أكثر من (1000 شهيد).
وخلال انتفاضة الأقصى (2000-2005)، استبسل الغزوين في المقاومة، وقدموا حوالي (2000 شهيد)، بالإضافة إلى اثنين من ايقونات الثورة الفلسطينية، محمد الدرة وفارس عودة.
بعد فشل مسار أوسلو وما سمي “السلام” مع العدو الصهيوني، اختار اهالي غزة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كممثل لهم، بعد أن فازت بالأغلبية في الانتخابات التشريعية عام 2006. ورفضت الولايات المتحدة والعدو الإسرائيلي نتائج الإنتخابات، بعد أن رفضت حماس التخلي عن المقاومة، والإعتراف بالكيان الإسرائيلي، لتبدأ مرحلة جديدة من المقاومة والصراع.
فرض الغرب حصاراً على قطاع غزة، وشارك الأوروبيون والأمريكيون في ذلك، وبعد ان عززت حركة حماس سيطرتها على غزة عام 2007، بعد ان احبطت محاولة انقلاب عليها من قبل حركة فتح وواشنطن، كما تقول حماس، شدد الكيان الإسرائيلي حصاره على القطاع، وكذلك فعل الغرب.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2008، شن الكيان عدواناً جوياً واجتياحاً برياً على القطاع عرف في حينه بعملية “الرصاص المصبوب”، ونفذت طائرات الإحتلال نحو ثلاثة آلاف طلعة جوية فوق غزة وأسقط عليها ألف طن من المتفجرات. ووثقت العديد من المنظمات الحقوقية جرائم حرب وإبادة ارتكبها الإحتلال في ذاك العدوان، لتبدأ منذ ذلك الحين مرحلة جديدة من معاناة أهل غزة، ومن مقاومته أيضاً.
وبين عامي (2008-2023)، قام الكيان الإسرائيلي بالعديد من العمليات العسكرية، وفي كل مرة يسقط آلاف الشهداء من غزة، بالإضافة إلى التدمير الهائل في البنى التحتية والمنازل، يضاف إلى ذلك، حصار شديد، حيث تحول القطاع إلى سجن كبير، يعاني من نقص في كل نواحي الحياة، خصوصاً في الطبابة والعمل وغيرها من ضروريات الحياة.
ورغم هذه المعاناة والأهوال التي عاشها ويعيشها قطاع غزة، بقيت عين أهله ومقاومته على القدس، وتحرير كامل فلسطين، لم تنجح الإجراءات الصهيونية والغربية والعربية في كسر مقاومة القطاع، وفي فصله عن القضية الأساسية وفي بيت المقدس والأراضي المقدسة في القدس والخليل وفي كل شبر محتل على امتداد هذه البعقة الجغرافية، فمعركة “طوفان الأقصى”، وان انطلقت من غزة، فإنها تشمل في تداعياتها كل فلسطين.
وأسست “سيف القدس”، لهذه المعركة، حيث وجهت حركة حماس وفصائل المقاومة الضربة الأولى للكيان الإسرائيلي، انتصاراً للأقصى والمقدسات، ومنعا لتهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، وربطت هذه المعركة الضفة وغزة في سياق معركة واحدة، رغم محاولات الفصل الجغرافي والسياسي والميداني، لتعيد التأكيد عل الهوية الفلسطينية الواحدة، غير القابلة للتجزأة.
وما أدى إلى هذه العملية، أصل وجود الكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، واحتلاله للمقدسات فيها، بالإضافة إلى تزايد عمليات التهويد في الآونة الأخيرة، واستفزازات الصهاينة في المسجد الأقصى، بالتزامن مع تزايد الإعتداءات بحق الفلسطينين في الضفة، قتلاً وتنكيلاً واعتقالات، بالإضافة إلى حصار إقتصادي ومعيشي على أبناء الضفة الغربية، حيث ارتفعت نسب التضخم المالي وغلاء المعيشة، بسبب ربط الإقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي، مع فارق في الرواتب بين الفلسطينين والصهيوني.
فأتت “طوفان الأقصى”، لتكون معركة كل فلسطين، ومن خلفها الأمة الإسلامية، التواقة إلى زوال هذا الكيان المصطنع، وقدمت كتائب الشهيد عزالدين القسام، أولى المشاهد الحية عما ينتظر الكيان، مع بدء حرب التحرير الكبرى المتوقعة، حيث تتشابك الساحات وتتوحد.
ومن المشاهد الإضافية إلى قدمتها “طوفان الأقصى”، صورة وحدة الأمة الإسلامية، التي تقف خلف المقاومة في فلسطين وفي لبنان، وهذا ما بدا جلياً وواضحاً، في المسيرات والتظاهرات التي عمت العالمين الإسلامي والعربي، من طهران مروراً بتركيا وصولاً إلى أقصى المغرب في موريتانيا، لتعيد هذه المعركة القضية الفلسطينية إلى المربع الأول، الذي حاول العديد من الحكام العرب طمسه، لصالح مشاريع تطبيعية، تقضي على حلم تحرير فلسطين.
وتؤكد هذه المعركة، أن الأمة الإسلامية حاضرة في المواجهة، ولن تترك فلسطين خلفها، وكشفت عن عمق التباعد بين شعوب الأمة وحكامها، الذي يتحرك بعضهم وفق الهوى الأمريكي، ضارباً بعرض الحائط كل المصارح الإسلامية والعربية، حيث وصل مستوى التخاذل إلى مساواة المقاومة بالكيان الصهيوني، حتى في معارك “طوفان الأقصى”، وكأن لا مشروع لديهم، سوى مشروع الإستسلام.
غزة التي خرجت من دائرة مفاوضات ما سمي “السلام” عام 2006 إلى غير رجعة، وضعت أولى الخطوات العملية لتحرير فلسطين، رغم ضعف الإمكانات، فالأرض التي داسها المقاومون في 7 تشرين الأول/اكتوبر 2023، لن تبقى طويلاً حتى تعود إلى الحكم الفلسطيني، في حين تؤكد كل المعطيات التاريخية والميدانية والعسكرية، بأن ما قبل “طوفان الأقصى” ليس كما بعده.
المصدر: موقع المنار