لا شك أن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة في غزة، أذلت بل كسرت ما تبقى من هيبة للكيان الإسرائيلي وجيشه، وأظهرت ترهل هذا الجيش وضعف أساسات وبنيان هذا الكيان بشكل يحتاج معه إلى سنوات طويلة لإعادة ترميم الهيبة، وبالتالي ترميم الردع، هذا إذا بقى الكيان الإسرائيلي إلى سنوات طويلة قادمة، ولم تكن نهايته قريبة بعد أن وضعته عملية طوفان الأقصى أمام تحد وجودي جدي، وفتحت التوقعات على مصراعيها لمصير هذا الكيان الزائل.
وعلى وقع هذه العملية التاريخية والكبيرة، وبدء العدوان الصهيوني على غزة مع ما يرتكبه من مجازر وجرائم يندى لها الجبين، بدأت تطرح تساؤلات كثيرة عن مصير هذه المعركة، والخيارات المتاحة والممكنة والمتوقعة حولها، لاسيما أن هذه الجرائم تجعل خيارات الحرب المفتوحة ضاغطة أكثر من أي وقت مضى، خاصةً أن سماحة الامام السيد علي الخامنئي أكد في خطابه أن العالم الإسلامي لن يقبل استمرار هذه الجرائم، وقد أتت مجزرة مستشفى المعمداني لتؤكد همجية الكيان الإسرائيلي، ومن ثم أتت زيارة بايدن إلى الكيان الإسرائيلي لتؤكد الوقوف الأميركي إلى جانب الكيان أكثر فأكثر لكن هل أن ذلك يعني أننا أمام سيناريوهات حرب مفتوحة تبدأ مع تدخل المقاومة بهذه المعركة.
بطبيعة الحال إن الإجابة على هذه التساؤلات معقدة وحساسة وبحاجة الكثير من البحث والتوقعات، لكن يمكن أن نتحدث عن ذلك من خلال نقاط عدة مختصرة توضح صورة المشهد وتجيب على هذه التساؤلات، لا سيما أن المرحلة اليوم هي الأكثر حساسية وتعقيداً ولا يمكن أن تدار بالعاطفة فقط على الرغم من أهميتها، إلا أن المرحلة حساسة لدرجة أن من الصعب التكهن بما سيكون عليه المشهد، خاصةً أن السؤال الأساسي اليوم عند البعض ولعله نتيجة عدم المتابعة السليمة لما يحصل، هو متى ستدخل المقاومة في لبنان الحرب، وأمام ذلك يمكن أن نجمل الإجابة على ذلك بنقاط عدة كالتالي:
1- لقد أعلن حزب الله منذ بداية الطوفان أنه لا يقف على الحياد، وهو منذ اليوم الأول للمعركة، بدأ بإشغال الجبهة وقدم إلى الان عددا كبيرا من الشهداء وأكد بالنار أنه ليس على الحياد، وهو في معركة واضحة أو أيام يمكن القول إنها قريبة مما يعرف بالايام القتالية، وخاصةً أنه يزيد من جرعة العلميات والاستهدافات اليومية.
2- لا شك أن هناك ضغطت إنسانيت وجماهيريت كبيرت اليوم على المقاومة لكي تتدخل لكن قرار السلم والحرب له مقدمات وتداعيات كثيرة وأي قرار يجب أن يكون مدار بحث الوسائل والخيارات والسيناريوهات والنتائج وقبل كل ذلك تهيئة الأرضية، وهذه الأمور لا تدركها إلا قيادة المقاومة التي حركت الجبهة في جنوب لبنان، وأكدت استعدادها الذهاب لكل الخيارات، لكن دائماً يبقى التوقيت والمكان والطريقة بيدها، لكي لا يتمكن الإسرائيلي من إمتلاك عنصر المفاجأة.
3- هنا يمكن أن تطرح إشكالية على ما تقدم، هل يعني ذلك أن حزب الله غير جاهز لمعركة كبرى؟ إن الجواب على هذه الإشكالية تحسمه مؤشرات كثيرة يمكن الإشارة إلى ثلاثة منها، قدرات المقاومة التي ظهرت في حرب تموز 2006، ثم في حرب سوريا ومحاربة جبهة النصرة وداعش، ومن ثم خلال الأيام القليلة الماضية في جبهة الجنوب حيث دمرت أكثر من 10 دبابات والكثير من الاليات وأسقطت قتلى وجرحى بالعشرات للصهيوني وهذا باعترافهم. إذاً هذه الإشكالية غير صحيحة، لأن حزب الله يستطيع أن يحول الكيان الإسرائيلي إلى طوفان جديد أكبر من طوفان الأقصى، لكن أيضاً تأخذ المقاومة يعين الاعتبار عناصر عسكرية متعددة منها عنصر المفاجأة ومنها عنصر التمكين والتثبيت وليس مجرد فتح الجبهة، لأن مقابل التضحيات يجب أن يكون هناك نصر مبرم ثابت لا تراجع عنه.
4- قراءة معطى التدخل الأميركي – الغربي في المعركة هام جداً، فعلى الرغم من كل ما يقوم به الأميركي، إلا أنه إلى الان يتعامل بعقلية عدم فتح معركة إقليمية شاملة، وهو إذاً إلى الان عقلاني على عكس الإسرائيلي الذي يمارس حفلة جنون ضخمة، وبالتالي يعمل الأميركي على تحييد الساحات عن المعركة، هل يعني ذلك أن يستفرد الاميركي والإسرائيلي بغزة ليتم تركها فريسة لهؤلاء، بالتأكيد ليس هذا المقصود لأن قوة المقاومة في غزة لا تزال ببنيتها الأساسية ممتازة وجاهزة، وإلى الان لم يتمكن الاسرائيلي من الدخول إليها ومواجهة المقاومة مباشرةً.
5- يجب النظر إلى أن الأميركي يحاول وضع حد للدخول البري الإسرائيلي، فهو لا يريده واسعاً ويشمل الاحتلال الكامل، ولا يريده أن يمتد إلى أشهر طويلة أو إلى جر محور المقاومة إلى حرب، لكن ايضاً يمكن أن تتدحرج الأمور ولا تكون لصالحها، وهو يعلم جيداً أن أي حرب شاملة ستكون كارثية على الكيان الإسرائيلي، بل على الوجود الأميركي في المنطقة ايضاً.
6- قد يسأل البعض، ماذا عن مجزرة مستشفى المعمداني وغيرها من المجازر، طبعاً هذه المجازر مستنكرة وبشعة، وقد حركت دماء الأبرياء من أهالي غزة، الشارع العربي والرأي العام العالمي، وأكدت على حقيقة ما يحصل من جرائم، وبالتالي لن تمر دون عقاب، مع الإشارة إلى أن أهالي غزة لطالما تحملوا مثل هذه الجرائم، مثلاً عمليّة «الجرف الصامد» (2014): الشهداء 2174، منهم 1743 مدنيّاً و530 طفلاً و302 امرأة و64 غير معروفين بسبب تناثر الأعضاء. الجرحى: بالآلاف، منهم 3303 أطفال و2101 امرأة، بينما ثلث الأطفال الجرحى سيعانون من إعاقة دائمة. 145عائلة فلسطينيّة فقدت 3 أو أكثر من أفرادها في حدث واحد، وإجماليّهم 755 فرداً.
7- يجب التأكيد على أن الغرب يريد أن يحول الهزيمة إلى فرصة والخسارة إلى انتصار، لذا علينا أن نركز على أن إسرائيل اليوم تلقت ضربة قاسية لن تنساها في تاريخها من خلال عملية طوفان الأقصى، وبالتالي ما يحصل هو شيء طبيعي في مقابل االطوفان وبالتالي هي خاسرة بكل الخيارات، لأن أحلى الخيارات لديها مرّ.
بعد كل ما تقدم، يمكن الحديث عن سيناريوهات للمعركة بشكل مختصر:
1- أن الوقت لا يزال متاحاً ومتسعاً قبل الحديث عن فتح حرب إقليمية شاملة، يدخل فيها محور المقاومة بكل ثقله، لأن إسرائيل إلى الآن لم تحقق أي إنجاز يخرجها من خسارتها وصدمتها غير ما ترتكبته من مجازر وهو في نهاية المطاف سيكون أمام رد على هذه المجازر.
2- من المتوقع أن يتم توجيه ضربة قاسية للكيان في أي دخول بري مفترض، فالمقاومة في غزة تملك الكثير من الخيارات العسكرية في حرب غير متماثلة، لجهة حرب العصابات في مواجهة الحرب التقليدية، وبحوزتها مئات المسيرات ومئات صواريخ ضد الدروع والعبوات والصواريخ المتوسطة والبعيدة، فضلاً عن وجود مقاتلين مدربين مستعدين للاستشهاد في مواجهة العدو، مع وجود بيئة حاضنة تتحمل كل التضحيات من قتل وجراح من أجل الحفاظ على النصر.
3- أحد أهم السيناريوهات المتوقعة بعد زيارة بايدن، هو توسع القتال في غزة من خلال دخول بري محتمل للعدو ولو إلى شمال قطاع غزة لإقامة حزام أمني، ومن ثم الذهاب إلى تفاوض لأن النهاية بالتفاوض فلا أحد يريد الذهاب إلى حرب شاملة.
4- في الجبهة الجنوبية لا أحد يمكن أن يتوقع ويتحدث عن خيارات المقاومة غير قيادتها، لأن ما يميز هذه المقاومة هو عملها السري وعقلها الفذ وغموضها البناء، لكن من المحتمل بقاء الإشغال المقاوم للإسرائيلي من لبنان إلى وقت أطول يستنزفه ومع جرعات متزايدة من التوسع في الاستهداف.
5- بحسب ظروف الميدان وتحولات المعركة في غزة، يمكن أن نصل إلى الدخول في أيام قتالية بالجنوب دون أن تتحول إلى حرب مفتوحة في لبنان.
يبقى أن نقول أن التطورات يمكن أن تتسارع وتؤدي إلى فتح الجبهة الإقليمية بحسب الظروف التي قد تحصل، التي لا يمكن توقعها، كما يبقى هناك أمر آخر هو تقدير المقاومة لعملها على رأسها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله وهذا الخيار يبقى عند المقاومة فقط.
* استاذ في العلاقات الدولية
المصدر: موقع المنار