وجه نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب رسالة المولد النبوي الشريف، قال فيها: “أتوجّه بالتبريك والمعايدة للمؤمنين جميعاً بمناسبة ولادة النبي الخاتم نبي الرحمة رسول السلام محمد ابن عبد الله (ص) راجياً المولى عّز وجل ذا المغفرة والرحمة أن يمنّ علينا وعلى وطننا لبنان الحبيب وعلى الأمتين العربية والاسلامية باليمن والبركة والامن والاستقرار والوحدة والعزة والكرامة، وعلى العالم بالهداية والامن والسلام والتوازن والتنمية بكرامة النبيّ الأمي ّوبالجاه الذي له عنده إنه سميع مجيب”.
اضاف: ” لقد كانت نعمة الله على الانسان كبيرة بعد نعمة الايجاد أن قرن الله جلَّ اسمه هذا الوجود ببعثة الأنبياء (عليهم السلام)، فكان أول البشر نبيا ثم تتابع منه إرسال الأنبياء والرسل كلما اقتضت الحاجة، لذلك الحاجة البشرية وحاجة استمرار الحياة لمن يهديها سواء السبيل عندما تتشعّب الطرق ويخفت النور وتتراكم الظلمات ويُفتقد الى الدليل أو عند مفاصل الحياة التي كلما تقدّمت كلما تعقّدت مشاكلها وجنح بها الجهل الى السقوط وليعيدها إلى الطريق القويم كلما عنه ابتعدت وضلّت. وقد توجت هذه السلسلة من الرسل والنبوات بالنبي الأمي العربي المكي التهامي (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) {الأعراف/157}، يبشّر كل واحد منهم بالنبي الذي يأتي بعده، فهم سلسلة متتابعة في خط واحد اقتضى اختلاف المراحل وتنوعّها وتطور الحياة ومشاكلها والعمر الطبيعي للإنسان أن تتعدد الشرائع ويتعدّد حاملوها، فالتعدّد في الديانات تعدّد في الشرائع اقتضتها طبيعة التطور للحياة وتعقيداتها وهي ليست كذلك في الثابت الذي لا يختلف باختلاف المراحل وتطورها وتعقّد مشاكلها سوى في شخصية الرسول الحامل لها لما ذكرنا وهو ما يسمى بالأصول الاعتقادية من الربوبية والوحدانية والعدل والبعث للحساب والجزاء يوم القيامة. وكذلك القيم المعنوية والأخلاقية، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) {الحديد/25}. “.
وتابع: “أما بخصوص بعثة النبي محمد (ص) قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) {الأعراف/157}. لقد كانت المهمة الاولى لرسول الله (ص) وسائر الرسل هي بثّ الوعي في عقول الناس من خلال الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله الواحد والتخلّص من التبعية والانقياد الاعمى للزعامات القبلية التي استطاعت على فترة من الزمن أن تركّز فيهم عقائد منحرفة وأعراف خاطئة عبَّروا عنها في مواجهة الدعوة الجديدة بالتمسّك بها وعدم التخلي عما ورثوه من الآباء والأجداد بقولهم (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) {الزخرف/22}، التي تُعبِّر عن التبعية العمياء وموت حركة العقل والتفكير فيهم وتقديس ما ألِفوه من أعراف واعتقادات خرافية، فقد كان تحرير العقل من الخرافات والبعث على التفكّر والتدبّر من أولى ابجديات التحضّر والانعتاق من قيود وأسر الواقع المتخلف المرير”.
وقال: “كان تحرير العقل وانطلاقه أولى المهمات الرسالية للدعوة الجديدة، وثانياً: اعادة الاعتبار للقيم الانسانية والاخلاقية من الحق والعدل والرحمة والتعارف والتعاون على البرّ والتقوى وغيرها من القيم التي عفى عليها الزمن واستُبدلت بقيمٍ محكومة باعتبارات القوة والاعراف التي انشأها المستكبرون والطغاة التي تضمن لهم الاستمرار في السيطرة والمنافع والمصالح، فإنها بحاجة إلى نمط من القيم تُكبِّل العقل وتُحقِّر الاخلاق التي ترى فيها مظهراً للضعف والاستكانة والتخلّف وتحترم القوة والتغلب والقهر والاستضعاف والعدوان والظلم وتعتبرها عاملاً من عوامل البقاء والاستمرار التي تُعبِّر في واقعها عن جانب الضعف الإنساني وليس عن قوته وعن العمى الحضاري لديه والجانب الحيواني فيه”.
اضاف: “لقد كانت المهمة التي تَشَارك الأنبياء جميعاً فيها هاتين القضيتين وهي الأساس في كل قضايا البؤس التي تعيشها الانسانية في كل مراحلها والثوابت التي لا تتغير في صلاحها وسعادتها أو فسادها وتعاستها.
وكان هذان العاملان يوجّهانها دائما إلى إحدى هاتين النهايتين، إما السعادة وإما الشقاء. لقد كانت الانسانية في مسيرتها التاريخية أحوج ما تكون إلى هذا الجهد النبوي والرسالي المعنوي والاخلاقي الذي عبَّر عنه القرآن الكريم في واحدة من آياته المباركة: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) {البقرة/213}.”.
واشار الى “انّ ساحة الاختلاف بين الناس كانت محصورة في هذه الدائرة، ما يسمى اليوم في المصطلح المعاصر بدائرة المذاهب الاجتماعية التي يحتدم فيها الصراع بين الاتجاهات الفلسفية المادية الإلحادية، إما نظرياً أو عملياً، وبين الاتجاهات الدينية التي تعتمد المبادئ المعنوية الانسانية والأخلاقية، والاجتماع البشري اليوم يُكرِّر نفسه بإخفاقاته ومآسيه وهو سائر باعتماده مبدأ القوة والتغلّب وطلب اللذة وعبودية الغرائز والنزوع الى الفساد الاخلاقي إلى نفس النهايات التي صارت إليها الامم الغابرة ومنها العرب قبل البعثة النبوية الشريفة التي حدَّثنا الله تعالى عنها في قرآنه قائلاً: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) {آل عمران/103}. وأخبرنا بها وإنا عائدون إليها وواقعونا فيها بعد أنقذنا الله منها.
عن أبي سعيد الخدري (رض) مرفوعاً: ” لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟”.”.
قال: “فكما تمكّنت المادية من الإمساك بالأمم الاخرى فأخرجتها عن تعاليم رسالتها وأديانها وأنبيائها فكذلك سيكون مصيركم، فأين هي المسيحية وتعاليم السيد المسيح؟ وأين هي الموسوية وتعاليم موسى؟ إذ لم يبقِ الغرب المتهوِّد والمتصَهين الغارق في المادية من المسيحية والموسوية شيء، وأخضع أتباعهما لتعاليمه وجرَّهما إلى الفساد فكذلك يتسع في افساده ليشمل العالم العربي والإسلامي الذي ما يزال يقاوم بما بقي لديه من عناصر القوة المعنوية والأخلاقية”.
واكد الخطيب “انّ المشكلة الرئيسية التي نعاني منها اليوم في مجتمعاتنا العربية والاسلامية ومنها لبنان تتلخّص في هاتين النقطتين: التبعية للغرب ليس السياسية فقط وإنما التبعية الفكرية واتخاذنا الغرب نموذجاً نقتدي به من دون تفكير فعدنا كالجاهلية الأولى، واذا كانت للجاهلية الاولى ظروفها الموضوعية الاجتماعية التي جعلتها أسيرة لها من دون تبرير فليس لنا وبين أيدينا التجارب أن نتعذّر بأيِّ عذرٍ نُعلِّل به واقعنا وتبعيتنا للنموذج الغربي الكافر والمنافق، وبين أيدينا أيضا كتاب الله يقصّ علينا تجارب الامم الماضية لنعتبر ونؤوب إلى الصواب ونتمسّك بالقيم الاخلاقية حفظا لمجتمعنا من الخراب والزوال”.
وقال: “ايها اللبنانيون، إنّ المشكلة اللبنانية تتلخّص في نقطتين: في الخضوع الاعمى للثقافة الجاهلية الجديدة التي جمّدت عقولنا عن التفكير وجعلتنا أسرى الخوف الطائفي وقسّمت لبنان إلى لبنان المسيحي ولبنان المسلم، ثم قسّمت لبنان الطوائف إلى لبنان المذاهب وفق أهواء ومصالح الغرب الذي يدير اللعبة من وراء الستار الذي يتمثل بزعامات وأحزاب طائفية ارتبطت مصالحها وارتبط وجودها بما يسمى النظام الطائفي وهي تسمية خاطئة وربما يصح تسميته بنظام المحاصاصات الطائفية، فالنظام لا ينسجم مع الهويات السياسية الطائفية والمذهبية التي هي العلة الأساسية لكل الازمات التي تتكرر بعد مرور زمن قصير على الخروج منها بتسوية، ولذلك فإن المنتفعين من نظام المحاصاصات الطائفية لن يسرعوا إلى إيجاد التسوية الا بعد أن يضمنوا لأنفسهم البقاء في السلطة والحفاظ على مصالحهم، ولن يستجيبوا لدعوات الحوار الا بعد أن يؤذن لهم مهما ارتفعت الاصوات وبلغت المأساة التي يكتوي بنارها الناس”.
وسأل: “من يلتفت لموظفي القطاع العام؟ ومن يهمّه فتح المدارس؟ ومن يلتفت إلى متطلبات العام الدراسي؟ ومن يضع حداً لجشع أصحاب المدارس وأقساطها المفروضة بالدولار؟ ومن يلتفت إلى المرضى وحاجتهم الى ادواء ومتطلبات الاستشفاء؟ ومن أين يأتون بالدولار لتأمين المحروقات للتدفئة ونحن على ابواب الشتاء؟ وفي كل مجالات الحياة والعيش طالما أن التعامل تدولر بالكامل، ومن يعيد للمودعين ودائعهم؟ فالأزمات تحيط باللبنانيين من كل مكان ومع ذلك لا يرمش للمعوّقين للحل والمسوِّفين جفن، يعطّلون انتخابات رئاسة الجمهورية ويعطّلون المجلس النيابي وجلسات الحكومة فيما الأخطار الوجودية وخصوصاً خطر النزوح السوري يهدّد مصير الوطن بينما المسؤولية الوطنية تستدعي الإسراع في إنتاج الحلول بالتوافق ومن دون تأخير. فلا تستغربوا ذلك طالما أنتم قد رهنتم أنفسكم لرعاة الطائفية السياسية وقَبِلتم أن تتطيفوا وتتمذهبوا سياسياً.”
وأعلن “انّ الحل الجذري للخلاص نهائيا من تكرار هذه الازمات هو بإقامة نظام المواطنة الذي يساوي بين اللبنانيين على اساس إنساني، فالانتماء الطائفي والمذهبي لا يعطي لصاحبه امتيازاً على الآخر في الحقوق والواجبات، وهو ما تتفق عليه الديانات السماوية، وهو ما يفترض أن يتوافق عليه اللبنانيون ويجمعهم على التحرّر من عنصرية الطائفية السياسية. كما يفترض أن يجمع اللبنانيين على مواجهة نشر الرذيلة والفساد الأخلاقي وعدم السماح لدعاته بهدم الاسرة اللبنانية وتخريب المجتمع اللبناني وتفكيكه أخلاقياً كما يفعل بالسياسة”.
وختم: “إنّها رسالة الأنبياء والرسل، رسالة القيم والأخلاق، وعلى رأسها الإسلام، رسالة الرحمة والمحبة والسلام إلى العالم تُوجت بمولد النور والخلق العظيم محمد (ص)، فكل عام وأنتم بخير، وأعاده الله على المسلمين والعرب واللبنانيين بالوحدة والكرامة والسلام”
المصدر: الوكالة الوطنية للإعلام