لطالما عانى الكيان الصهيوني من أزمة هوية، منذ تأسيسه وكان الخلاف يخرج الى السطح بين الحين والآخر، فهل هذا الكيان هو كيان صهيوني بحت دون النظر الى ديانة القاطنين فيه، او هو كيان يهودي فيكون الحكم بيد اليهود دون غيرهم مع قبول الديانات الاخرى تحت حكمهم، ام هو كيان يهود فلا يكون لغير اليهود مكان في هذا الكيان لا حكما ولا اقامة، ورغم هذا الصراع الدائم على هوية الكيان فقد برز في الاونة صراع جديد ليقول هل هذا “كيان علماني ليبرالي” ام “كيان ديني”.
حظى الانقسام الاجتماعي – السياسي الداخلي في الكيان الصهيوني بمحطة جديدة من محطات الصراع على طابع الكيان وتوجّهاتها، فتحوّلت حادثة محدودة ، إلى حدث ذو دلالات سياسية وتاريخية شاملة، ذلك بعد أن أعادت المواجهات بين متظاهرين (علمانيين) ومتدينين – صهاينة على خلفية منع إقامة صلوات “يوم الغفران” في قلب تل أبيب مع فصل بين النساء والرجال، أعادت رسم “خطوط الفصل” بين التوجّهات العلمانية والدينية، وأطلقت ما يشبه صافرة الإنذار بالتزامن مع “عيد الغفران” اليهودي.
رفع المتاريس في يوم الغفران
لم يمر “يوم الغفران” دون رفع المتاريس بين العلمانيين والمتدينين، حيث اعادت المواجهات التي حدثت الاحد الماضي خلال تأدية صلوات “يوم الغفران”، رسم الاصطفافات فيما خصّ النزاع المرتبط بـ”هويّة الدولة” والصراع على نمط الحياة في الكيان العبري بين التوجّهات الدينية والعلمانية.
وتمثلت الحادثة في اندلاع مواجهات، في نقاط عديدة، أبرزها في ميدان “ديزنغوف”، التل أبيبي (عقر دار العلمانيين والليبراليين)، عشيّة “عيد يوم الغفران”، ذلك في أعقاب محاولة متظاهرين (علمانيين)، منع متديّنين من إقامة الصلوات على قاعدة الفصل بين الرجال والنساء.
وخلافاً للترخيص الذي حصلوا عليه من بلدية تل أبيب، وبخلاف قرارات هيأتين قضائيتين (المحكمة المركزية والعليا)، شرع منظّمو الصلوات، وهم من جماعة مدرسة “رأس يهودي” المحسوبين على التيار المعروف باسم “الحردلَيم” (وهو الجمع بين الحريدية والقومية) في إقامة حواجز فصل بين الرجال والنساء باستخدام اعلام الكيان المؤقت كحاجز مؤقّت، الأمر الذي استفزّ متظاهرين علمانيين، وقاموا بإزالة الحواجز وتفرِقة المصلّين، ما أدى إلى اندلاع مواجهات بين الطرفَين.
شرارة الانقسام على خلفية الفصل، رجالاً ونساءً، سرعان ما أشعلت الجبهة السياسية، التي شهدت حرباً كلامية، وتبادلاً للاتهامات، وصل إلى حدّ الحديث عن حرب أهلية والصراع على طابع الكيان وهويته.
سجال على الهوية بنكهة سياسية
في إشارة واضحة إلى الدلالات العميقة والجذور الثقافية لهذه الحادثة، سارع المستوى السياسي إلى الدخول على خط السجال، واللافت أنّ السجال لم يعكس طبيعة الصراع العلماني – الديني، بل أخذ طابع المواجهة بين المعسكرات التقليدية الحالية: معسكر نتنياهو، الذي يضمّ إليه الأحزاب الدينية والحريدية، الذي هاجم بدوره المتظاهرين “اليساريين”؛ وفي المقابل وقف معسكر المعارضة (بقيادة لابيد وغانتس)، الذي يحمل طابعا ليبرالياً – علمانياً أيضاً، ويخلو من الأحزاب الدينية، أمّا الإدانة الأرفع مستوى والأكثر دلالة للمتظاهرين، فأتت من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي ألقى باللّوم على من أسماهم “المتظاهرين اليساريين ضدّ اليهود أثناء صلواتهم”، الأمر الذي رأى فيه مُعلّقون إخراجاً لليسار عن اليهودية!
وعلى غرار موقف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، انتقد “وزير الأمن القومي” إيتمار بن غفير، التظاهرات ضد الصلوات ضمن فصل بين الجنسين. وقال: “في يوم الغفران رأينا مبغضين يحاولون طرد اليهودية من النطاق العام “. بدوره، وصف وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، المتظاهرين بأنهم “حارقو غلال”. كما تطرق “وزير الداخلية” والصحة موشيه أربل، إلى الأحداث، قائلا إن “مشاهد يوم الغفران تثير أسفا وحزنا عميقا. أبناء شعبنا اختاروا الانقسام، اليهودية والديمقراطية لم تعد موجودة. هذا ليس احتجاجا شرعيا بل فوضوية صرفة”. من جانبه، أدان وزير الاتصالات شلومو كرعي، المتظاهرين ضد الصلوات ضمن فصل بين الجنسين، قائلا: “أنتم أقلية مختلة تغني أغنية يأسها وبفظاظة ضمن عربدة منفلتة العقال. زمنكم انتهى، نحن سنستمر من هنا”.
واما معسكر المعارضة وهو المعسكر العلماني الليبرالي فقد انتقد رئيس المعارضة يائير لابيد، إقامة صلوات تفصل بين الجنسين في المجال العام في تل أبيب. وكتب على فايسبوك: “منذ سنوات وأنا أقدّم يوم الغفران كمثال إلى أن اليهودية لا تحتاج إلى فرضها. أتت إلى هنا نوى خلاصية وعنصرية تحاول أن تفرض علينا صيغتها لليهودية. ووصلت النواة الحردلية (حريديم قومية) إلى الحي، وقررت جلب حربٍ علينا”.
بدوره، قال رئيس “معسكر الدولة” بيني غانتس، بعد الأحداث “في مكان يوجد فيه من يدهوروننا إلى حرب أخوة، مهمتنا جميعا هي منعها”. وأضاف غانتس “على مدى 75 سنة نجحت الغالبية في التوصل إلى توافقات على النطاق العام في يوم الغفران. الآن، من قرر الفصل بيننا نجح في انتهاك هذا اليوم المقدس بإكراه وكراهية مجانية. لا أحد سوى رئيس الحكومة، أكبر مُحدث للكراهية، هو الذي يختار الآن تأجيج النيران ”
صراع على الصيغة اليهودية
وأفصح السجال السياسي الذي اندلع في أعقاب الحادثة، عن عمق الشرخ بين الصهاينة حول هويّة الكيان، وأيضاً حول الصراع على الصيغة اليهودية في الحيّز العام، وفيما تحدّث المتدينون عن كره العلمانيين للدين والمتديّنين، وعن محاولتهم فرض توجّهاتهم “الفاجرة” على الدولة، استحضرت جهات أخرى خطر التوجّهات الخلاصية التي تريد أن تفرض صيغتها على الحيّز العام في “دولة يهودية وديمقراطية”.
يضاف إلى رمزية المكان الذي وقعت فيه الحادثة، دلالة الزمان، وهو “عيد الغفران” وهو “اليوم الأقدس عند اليهود”، الأمر الذي دفع جهات دينية وسياسية إلى إعادة استرجاع “الأيام القاسية في التاريخ اليهودي”، بحسب ما أشار الحاخام الرئيس لليهود الأشكيناز في الكيان الصهيوني، دافيد لاو.
ورأت وسائل إعلام أنّ ما قام به أعضاء منظمة “رأس يهودي”، الذين يصرّون على الصلاة بفصل بين الإناث والذكور في الحيز العام، لا يعملون ببراءة. وأنّ ما طلبوا بإقامته ليس طقساً دينياً بل عمل سياسي. وأنّ هؤلاء يدفعون أجندة سياسية تسعى لتحويل الكيان من ديمقراطية إلى حكم ديني.
وذكر مُعلّقون أنّ ما جرى هو معركة على طابع الكيان، والطريقة الوحيدة للانتصار فيها هي القتال على الأرض مثلما منع متظاهرون أوّل أمس إقامة صلاة بالفصل بين الجنسين في تل أبيب، في حيفا وفي زخرون يعقوب ومدن أخرى.
ويتّفق الاتجاه الإعلامي الآخر – المؤيّد للمتدينين أو للحكومة – بأنّ ما جرى هو أيضاً في صلب الصراع على تعريف اليهودية في الكيان، وعلى مستقبلها، ويرون أنّه محاولة متطرّفين علمانيّين منع يهود من إقامة طقوس “دينية مقدّسة في أقدس يوم عند اليهود”، الأمر الذي يؤشّر إلى محاولة فرض التوجّهات العلمانية على اليهود المتديّنين في قلب بلدهم.
المصدر: موقع المنار