نص الخطبة
في الثامن من شهر ربيع الأول تصادف ذكرى شهادة الإمام الحسن العسكري(ع).
هذا الإمام العظيم الذي ولد في في المدينة في الثامن من ربيع الثاني سنة 232 واستشهد متأثراً بالسم على يد المعتمد العباسي يوم الجمعة في الثامن من ربيع الأول سنة 260 وعمره 28 عاماً، ودفن بالقرب من أبيه الإمام علي الهادي (عليه السلام) في داره في مدينة سامراء في العراق، ومقامهما المعروف بمقام العسكريين في سامراء مشهور يقصده الزائرون من مختلف أنحاء العالم.
وقد لُقِّب الإمام الحسن وابوه الامام علي الهادي عليهما السلام بالعسكريين، لأنهما كانا يسكنان في محلّة في سامراء تسمى العسكر، فنُسبا إلى هذه المحلة.
وقد كان للإمام الحسن العسكري(ع) مكانة رفيعة بين الناس لما كان يمتلكه من علم وفضل ومواقف وميزات رسالية وأخلاقية وانسانية بحيث أنه فرض شخصيته على المجتمع كله، حتى المجتمع المعادي لأهل البيت(ع) من الذين كانوا يلتزمون خلافة بني العباس ولا يؤمنون بالامامة لائمة اهل البيت، فنحن نقرأ في شهادتهم، أن هذا الإمام كان موضع تقدير واحترام وتعظيم وإجلال من الجميع، من الموالين والمحبين ومن غيرهم ممن كانوا محسوبين على مجتمع الخلافة العباسية.
لانه كان(ع) كآبائه الاطهار الميامين قمة في الاخلاق والسلوك الحسن, والتعايش السلمي مع الآخرين والتعامل الحكيم مع الحصوم والاعداء.
لقد ضرب الإمام العسكري (ع) أروع الأمثلة في التعايش السلمي وفي الأخلاق التي جسدت أخلاق جده المصطفى محمد (ص) والتي أصبحت منهجاً التزم به أهل بيته (ع).
وقد برز تعايشه السلمي وحكمته وعظمة اخلاقه في تعامله مع عموم من خالفه ومن نصب له العداء والبغضاء وحاربه أشد المحاربة حيث تمكن أن يؤثر بسلوكه واخلاقه على الكثير منهم حتى تحول بعض هؤلاء من أعداء إلى محبين وموالين.
فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْعَلَوِيِّ، قَالَ: حُبِسَ أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ نَارْمَشَ «و هُوَ أَنْصَبُ النَّاسِ وَ أَشَدُّهُمْ عَلى آلِ أَبِي طَالِبٍ و قِيلَ لَهُ: افْعَلْ بِهِ و افْعَلْ , فَمَا أَقَامَ عِنْدَهُ إِلَّا يَوْماً حَتّى و ضَعَ خَدَّيْهِ لَهُ و كَانَ لَايَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَيْهِ إِجْلَالًا و إِعْظَاماً، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَ هُوَ أَحْسَنُ النَّاسِ بَصِيرَةً، و أَحْسَنُهُمْ فِيهِ قَوْلًا.
فقد تحول هذا الرجل في يوم واحد من عدو الى محب بعدما رأى سلوك الامام(ع) وأخلاقه.
وعن عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ قَالَ: دَخَلَ الْعَبَّاسِيُّونَ عَلى صَالِحِ بْنِ و صِيفٍ، عِنْدَ مَا حَبَسَ أَبَا مُحَمَّدٍ عليه السلام يطلبون منه التشديد على الامام في السجن، فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: و مَا أَصْنَعُ به وقَدْ وكلْتُ بِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَشَرِّ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَا مِنَ الْعِبَادَةِ و الصَّلَاةِ والصِّيَامِ إِلى أَمْرٍ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ لَهُمَا مَا فِيهِ، فَقَالَا: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَصُومُ النَّهَارَ، ويَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، لَايَتَكَلَّمُ ولَا يَتَشَاغَلُ، وإِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهِ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُنَا ويُدَاخِلُنَا مَا لَانَمْلِكُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا؟ فَلَمَّا سَمِعُوا ذلِكَ انْصَرَفُوا خَائِبِينَ.
أسير لا يملك حولاً ولا قوة ينظر إلى آسره وجلاده فيرتعد خوفاً وفزعاً.. ما سرّ ذلك؟ إنها الإمامة والولاية وقوة الايمان وعظمة الاخلاق وهيبة الإمام (ع).
وهكذا فإن من يلجأ إلى الله ويتوجه إلى الله ويرتبط بالله ويستمد القدرة والقوة والإرادة والعزم من الله سبحانه، تهابه الملوك والجبابرة والطغاة والمستكبرون.
فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَخْشَعُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَ يَهَابُهُ كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ قَالَ إِذَا كَانَ مُخْلِصاً لِلَّهِ أَخَافَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى هَوَامَّ الْأَرْضِ وَ سِبَاعَهَا وَ طَيْرَ السَّمَاءِ.
اذن هذا السلوك من الامام(ع) يعطينا صورة واضحة عن قدرة الإمام العسكري (ع) في التعامل مع من نصب له ولأهل بيته العداء, وقد تمكن أن يحولهم من العداء إلى المحبة والولاء.
ولم يكن ذلك التأثير من باب المعجز والكرامات والخروج عن الحالات الاعتيادية بل إنها روحية الإسلام وأخلاقه التي حولت المجتمع الجاهلي إلى مجتمع مثالي وحضاري, وهي أخلاق أهل البيت(ع) التي اكتسبوها من القرآن الكريم حيث يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ فصلت(34- 35)
ويقول تعالى ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾
الأخلاق والسلوك ومعاملة الناس بالحسنى والتعايش السلمي معهم هو أبلغ وأشد تأثيراً في الآخرين من كثير من الخطب والمواعظ والكلمات والمواقف.
حتى العدو عندما تعامله بقيم الأخلاق والانسانية فانه يذعن لك ويرضخ ويسلم ويفقد كل مبررات العدوان.
وهذه الأخلاق وهذا السلوك الايماني والانساني الرفيع هو ما اوصى به الامام اتباعه وشيعته، اوصاهم بان يحسنوا تعاملهم مع بعضهم ومع الآخرين ممن ليسوا على دينهم أو مذهبهم.
كان الإمام حريصاً على ارساء مبدأ التعايش السلمي في الواقع الاسلامي وأن يكون شيعته وأتباعه في قمة الإيمان والتقوى والورع والأخلاق الحسنة والتعامل الإيجابي حتى مع الذين يختلفون معهم في العقيدة أو المذهب.
فقد قال في احدى كلماته: (قولوا للناس حسنا، مؤمنهم ومخالفهم، أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان).
فالامام يشير في هذا الحديث الى مبدأ التعايش السلمي الذي ينبغي يحكم العلاقة بين ابناء البشر سواء بين ابناء الدين الواحد او المذهب الواحد او بينهم وبين غيرهم ممن يختلفون معهم في العقيدة او المذهب من اتباع الديانات والطوائف والمذاهب الاخرى.
و التعايش السلمي هو بمعنى العيش المشترك بين الاشخاص والجماعات والطوائف، التعايش على أساس الاحترام والود والحب والوئام والبر والاحسان ومراعاة الحقوق واعتماد لغة الحوار في حل الخلافات والنزاعات لا لغة العنف والقتال.
ولا شك ان التعايش السلمي بين الناس يخلق حالة من التوازن في حياتهم، ويُساهم بدرجة كبيرة في انتشار الاستقرار والأمان الاجتماعي والسلم الاهلي ، ويحد من حالة انعدام الأمن وانتشار الفوضى والتعصب وإلغاء الآخر ، التعايش السلمي يدفع الناس للتعامل مع بعضهم بمنطق الاحترام والسلام والوئام والحوار لا بمنطق العنف والتعصب والعنصرية والقتل والتهجير ونحو ذلك.
وهذا المبدأ هو المبدأ الذي ربانا ائمتنا للسير عليه في التعامل مع الاخرين بان نعتمد منطق الاحترام ومنطق الحوار، بعيداً عن الانقسام والتناحر والتحارب السياسي وتراشق التُهم والسجال الإعلامي، والتكاذب السياسي، والشعبوية، لأن هذه الحالة السلبية تؤدي إلى فشل سياسي واقتصادي وأمني والى نتائج خطيرة.
التعايش السلمي هو قدرنا في هذا البلد وهو ما يجب أن نسير عليه أفراداً وجماعات وتيارات وأحزاباً لانه سلوك انساني واخلاقي، يحتم علينا جميعا العمل في اطار مشترك لتحقيق مصالح البلد والناس.
ولذلك نحن متمسكون بالحوار لانه السبيل الوحيد المتاح امام اللبنانيين للتوصل الى تفاهم حول رئاسة الجمهورية.
عندما تعجز القوى السياسية عن إيصال مرشحها الى الرئاسة، بسبب انها لا تستطيع جمع أغلبية نيابية مطلوبة وعندما يعجز اعضاء اللجنة الخماسية عن المساعدة في الحل، فان المنطق ومصلحة البلد يتطلبان ان يكون الحوار هو السبيل لحل الازمة، ويصبح انتظار الخارج والرهان عليه في ظل الظروف الراهنة هو مضيعة للوقت.
واليوم من يعطل فرصة انتخاب رئيس للجمهورية هم الذين يرفضون الحوار ويتمترسون خلف مواقف تعقّد الازمة ولا تقود الى أي مكان.
المصدر: بريد الموقع