نص الخطبة
يقول للّٰه تعالى في كتابه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} الحشر:18-20.
الاعمال التي تصدر عن الانسان قد تكون خيراً وقد تكون شراً؛ قد تكون حلالا وقد تكون حراما قد تكون اعمالا طيبة تنفع الانسان والمجتمع وقد تكون اعمالا قبيحة وسيئة تضر بالانسان والمجتمع، ولذلك فان الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يدقق فيما يصدر عنه من اعمال ؛ فيسأل نفسه هل إن ما عمله هو خير، أو شر؟ هل ما صدر عنه من عمل هو حرامٌ أو حلالٌ؟ على الإنسان أن يميّز بين نقاط الضعف ونقاط القوة في اعماله، حتى تتوازن نظرته إلى نفسه، فلا يأخذه الغرور لمجرد أنه نجح في في بعض الاعمال، ولا يتحكّم به اليأس إذا أخفق في بعض الاعمال .
على الانسان ان يحاسب نفسه، والآية تدل على وجوب محاسبة النفس، ومحاسبة النفس تعني: ان يدقق الانسان فيما صدر منه من اعمال، ان يخصص وقتاً يختلي به مع نفسه ليحاسبها عما قدمت من أعمال طيبة أو قبيحة، يسأل في نفسه هل ما قام به مفيد أو غير مفيد؟ ينظر ويفكر فيما قدَّمه لآخرته وليوم القيامة من أعمال، هل قدم للآخرة أَعمالا صالحة تُرضي الله وتُنجيه من عذاب الاخرة وتهيئه لدخول الجنة؟ أو أنه قدّم أعمالا تُغضب ربّه وتدخله النار؟
إهمال الإنسان لمحاسبة نفسه وعدم متابعته لأعماله قد يؤدي به إلى تراكم الذنوب والتمادي في المعاصي، وبالتالي الى مواجهة مصير أسود ومظلم يوم القيامة ، لان الانسان انما يحصد في الآخرة نتائج ما يصدر عنه من اعمال في الدّنيا، (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} الانشقاق:6 الانسان سيقف بين يدي الله للحساب ، فيحاسب على كل اعماله وخطواته {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
والهدف من المحاسبة ليس مجرد احصاء وتعدادها والتبجح بما صدر من اعمال مفيدة وخيرة، بل الهدف هو التمييز بين بين الاعمال الطيبة والاعمال السيئة ليكثر الانسان من الاعمال الطيبة ويبتعد عن الاعمال السيئة، او انه من اجل ان يوزن الانسان أعماله الخيرة فان كانت كثيرة عمل على زيادتها، وان كانت قليلة عمل على تكثيرها .
ويعلّمنا الإمام عليّ(ع) كيفية محاسبة انفسنا بشكل يومي فيقول: “إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسُ، إنّ هذا يومٌ مضى عليك لا يعود إليك أبداً، واللهُ سائلك عنه فيما أفنيتِه، فما الذي عملتِ فيه؟ أذكرتِ الله أم حمدتيه، أقضيت حقّ أخٍ مؤمن؟ أنفّستِ عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مُخَلَّفيه؟ أكففتِ عن غيبة أخٍ مؤمن بفضل جاهِك؟ أأعنتِ مسلماً؟ ما الذي صنعتِ فيه؟ فيذكر ما كان منه؛ فإن ذكر أنّه جرى منه خيرٌ حمد الله عز ّوجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على ترك معاودته”.
يجب ان يتدرب الانسان على هذا النوع من المحاسبة اليومية لنفسه قبل ان يحاسب يوم القيامة، وان يجهز نفسه للاسئلة الكبرى يوم القيامة قبل فوات الأوان.
أحد تلامذة العلامة السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان سأله في آخر دقائق عمره الشريف، ماذا نعمل حتى ننجو؟ وما هي اسهل الطرق للوصول إلى القرب من الله تعالى ونستفيد من عمرنا ؟
فنظر إليه السيد (رض) ، وقال : ” المحاسبة والمراقبة رددها ثلاث مرات “.
محاسبة النفس هي ضمانة النجاة، وهي اداة رئيسية من أدوات تصحيح السلوك والاخلاق والاعمال والتصرفات والمواقف والعلاقات ، الإنسان ما دام انه لا يتصف بالكمال المطلق ويخطىء ويقصر ويتعثر ويقع في السلبيات، فهو بحاجة الى المراجعة والنقد والتصحيح والتصويب ، ليتخلص من الشوائب والنواقص والسلبيات ونقاط الضعف وليعزز الايجابيات ونقاط القوة .
الناس لا سيما التجار ورجال الاعمال ومدراء الشركات واصحاب المهن يتقنون طرق المحاسبة المالية ومتابعة الاعمال ويوظفون محاسبين ومدققين ماليين ليعرفوا ما حققته شركاتهم ومصانعهم من أرباح أو ما تكبدته من خسائر، وبعد ذلك يقرّرون المتابعة في النمط الذي كانوا عليه سابقاً أو العدول الى نمط اخر حين اكتشاف ثغرات سبّبت تراجعاً في مستوى إنتاجهم، وربما لا نجد مشروعاً تجارياً في العالم إلا ويخضع لهذه العملية الحسابية بهدف المحافظة على رؤوس الأموال وتلافي الخسارة التي تؤدي إلى انهيار هذه الشركة أو تلك، وبالتالي فان هذه المتابعة والمحاسبة هي الضمانة لاستمرار الشركة ونجاحها وضمان انتاجها ، وهذا تماما ما ينطبق على الانسان من الناحية الدينية والروحية والسلوكية فان محاسبة الانسان لنفسه هي الضمانة لكي يربح الانسان الجنة ولا يخسر الآخرة . اذا كان الانسان شديد الحساب في ماله ليحصل على دراهم معدودة سيتركها لغيره ويبقى الوزر على ظهره، فمن باب اولى ان يكون شديد الحساب لنفسه ليحصل على الجنة الخالدة ويتلافي خسارة الاخرة. فربح الأعمال أعظم من ربح المال، وخسارة الأعمال أكبر من خسارة المال.
ولذلك ورد رسول الله(ص): “أَكْيس الكيِّسين من حاسب نفسه ـ ليعرف كل دقائق نفسه وكل أفكاره وأعماله وأقواله وعلاقاته؛ هل هي في الخطِّ المستقيم أو في الخطِّ المنحرف، هل هو من الذين أنعم الله عليهم أو هو من المغضوب عليهم ـ وعمل لما بعد الموت ـ أن يعمل للدار الآخرة ـ وأحمق الحمقى من اتّبع هواه وتمنّى على الله الأماني”، اي الّذي يتمنّى الجنة ورضى الله ولكنه لا يعمل لها ، يريد ان يدخل الجنة من دون عمل أو تحمّل للمسؤولية.
وعن الإمام عليّ(ع) أنه قال: “حاسبوا أنفسكم بأعمالهاـ نحن عادةً نحاسب غيرنا لأننا دائماً ننظر إلى الآخرين ولا ننظر إلى أنفسنا، مع أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن الآخرين، بل هو مسؤول عن نفسه، فعليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الآخرين ـ وطالبوها بأداء المفروض عليهاـ فقد فرض الله عليك الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان إذا كنت تستطيع ذلك، والحج، وما إلى ذلك من الفرائض التي أوجبها عليك، وعليك أن تطالب نفسك بهذه الفرائض بأن تؤدّيها ولا تفرِّط فيها أو تستهتر بها ـ والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا ـ وخير الزاد التقوى ـ وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا”.
على الإنسان أن يدقق في أعماله لان الله سيحاسبه في كل صغيرة وكبيرة ويطالبه بكل الخفايا التي قام بها ، حيث يقول تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) .
وفي آية أخرة يقول تعالى: (يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا فَيُنَبِّئهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّه وَنَسُوهُ وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء شَهِيد) .
ويقول عز وجل على لسان لقمان : ” يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ” .
على الانسان أن يعلم أنه سيحاسب على كل أفعاله وأعماله ، على سكناته وخطراته، وان المحاسب هو الله الذي لا تخفى عليه خافيه ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا إحصاها ، وقد حدّثنا الله عن بعض الناس الذين يقفون يوم القيامة، ويؤتى بكتابهم، فيقولون.(يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(الكهف:49)
فجدير بالإنسان أن يستعد لهذا اليوم ليخرج من ذلك الامتحان الالهي العظيم .
وقد روي عن النبي الاعظم(ص): ” حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا ، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ” .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام:”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم فإن عمل خيراً استزاده وإن عمل شراً استغفر اللَّه”.
هذه الايام لا زلنا نعيش اجواء الانتصار الالهي التاريخي على العدوان الصهيوني في آب 2006.
ان من ابرز مظاهر انتصار آب ٢٠٠٦ هو إفشال اهداف العدوان على لبنان، وثبات اهلنا وشعبنا، وتمسكهم بأرضهم، والتزامهم الحاسم بخيار المقاومة مهما كانت التضحيات.
هذا الانتصار ما كان ليتحقق لولا دماء الشهداء وبطولات المقاومين وتضحيات الجيش والإحتضان الوطني والشعبي للمقاومة .
ان احد اهم نتائج هذا الانتصار هو معادلات الردع التي أرستها المقاومة مع العدو ،لافتا الى ان هذه المعادلات التي اسس لها انتصار آب هي التي فرضت على العدو الاستجابة للمطالب اللبنانية في ترسيم الحدود البحرية بعد سنوات من المماطلة والتسويف والمناورة وتضييع الوقت.
ان وصول سفينة الحفر استعدادا للتنقيب انجاز ما كان ليتحقق لولا معادلات المقاومة والتكامل والتعاون والتنسيق بين الدولة والمقاومة التي فرضت على العدو الاعتراف بحقوق لبنان النفطية وادت الى الترسيم البحري.
اليوم الأمل الوحيد المتاح أمام اللبنانيين في مواجهة الحصار الامريكي على لبنان والخروج من الازمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية هو إستخراج النفط من حقل قانا وغيره من الحقول، واستثماره لمصلحة لبنان ولذلك كل اللبنانيين اليوم يتطلعون بأمل الى الى نتائج الحفر والتنقيب في حقل قانا بعد تثبيت المنصة العائمة في عرض البحر.
والضمانة الحقيقية لاستمرار العمل في الحفر والتنقيب واستخراج النفط ليست الاتفاقات والضمانات الامريكية بل إحتفاظ لبنان بكل عناصر القوة،وفي مقدمها المقاومة، التي يخشى العدو من رد فعلها في حال أراد الاعتداء او الانتقاص من حق لبنان، لان العدو لا يحترم الا الاقوياء اما الإتفاقيات والتفاهمات، فان كل التجارب دلت على انه لا يحترم منها شي ولا يفي منها بشيء.
إذا أراد اللبنانيون منع العدو من الاعتداء على حقوقهم والحصول على نفطهم وغازهم واستخراج ثرواتهم وإنقاذ بلدهم وبناء مستقبلهم ومستقبل أولادهم، يجب أن يتوحدوا خلف عناصر قوتهم، وان يتمسكوا بالمقاومة، لأنها أصبحت في موقع من يفرض المعادلات الصعبة في المواجهة الدائرة مع العدو الاسرائيلي لمصلحة لبنان
وبدل التحريض عليها والتشكيك بصدقيتها وبخلفياتها الوطنية يجب التمسك بها والحفاظ عليها والتفاخر بشجاعتها وعزمها وتصميمها على حماية لبنان وحقوقه وثرواته.