نص الخطبة
نعزيكم بشهادة الامام علي بن الحسين زين العابدين (ع) التي تصادف في الخامس والعشرين من شهر محرم.
لعليّ بن الحسين عليه السلام العديد من الصفات والخصائص التي رفعت من جلالة قدره وعظمة شخصيته وسمو ذاته ، ولعل من اهم وابرز تلك الخصائص اضافة الى العلم والسؤدد وكمال العقل والحركة الدؤوبة للعمل والعطاء والادوار الكبيرة التي قام بها على الصعيد العلمي وتخريج الغلماء والفقهاء وعلى الصعيد الاجتماعي لبناء مجتمع رسالي وجهادي وتربية المخلصين هو عبادته وطاعته لله وخشيته بين يدي الله .
فقد كان الامام(ع) قمة في العبادة والطاعة لله حتى انعكست عبادته في حياته وبرزت في ألقابه التي منها “السجّاد” لكثرة سجوده و”ذوالثفنات” التي برزت على جبهته الشريفة من طول سجوده و”زين العابدين” لعبادته لله و”سيّد العابدين”، وهو اللقب الذي اختاره له جدّه النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ: كنتُ جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحسين عليه السلام في حجره وهو يداعبه فقال صلى الله عليه وآله وسلم : “يا جابر يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيّد العابدين”.
وجاء في تسميته بذي الثفنات، أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: “كان لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة وكان يقطعها في كلِّ سنة من طول سجوده وكثرته.”
ولعل من ابرز مظاهر عبادته عليه السلام هو:
أ- خوفه من الله : فقد علّمنا الإمام السجّاد عليه السلام كيف نخاف الله في حواره مع طاووس اليمانيّ الذي يقول: رَأَيتُهُ يَطُوفُ مِنَ وقت الْعِشَاءِ إِلَى السَحَرٍ وَ يَتَعَبَّدُ، فَلَمَّا لَمْ يَرَ أَحَداً رَمَقَ السَّمَاءَ بِطَرْفِهِ وَ قَالَ: “إِلَهِي غَارَتْ نُجُومُ سَمَاوَاتِكَ وَ هَجَعَتْ عُيُونُ أَنَامِكَ، وَ أَبْوَابُكَ مُفَتَّحَاتٌ لِلسَّائِلِينَ، جِئْتُكَ لِتَغْفِرَ لِي وَ تَرْحَمَنِي وَ تُرِيَنِي وَجْهَ جَدِّي مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه و آله ) فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ” .
ثُمَّ بَكَى وَ قَالَ: “وَعِزَّتِكَ وَ جَلَالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِي مُخَالَفَتَكَ، وَ مَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وَ أَنَا بِكَ شَاكٌّ، وَ لَا بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ، وَ لَا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَ لَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَ أَعَانَنِي عَلَى ذَلِكَ سَتْرُكَ الْمُرْخَى بِهِ عَلَيَّ، فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي، وَ بِحَبْلِ مِنَ أَعْتَصِمُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي، فَوَا سَوْأَتَاهْ غَداً مِنَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِذَا قِيلَ لِلْمُخِفِّينَ جُوزُوا وَ لِلْمُثْقِلِينَ حُطُّوا، أَ مَعَ الْمُخِفِّينَ أَجُوزُ، أَمْ مَعَ الْمُثْقِلِينَ أَحُطُّ، وَيْلِي كُلَّمَا طَالَ عُمُرِي كَثُرَتْ خَطَايَايَ وَ لَمْ أَتُبْ، أَمَا آنَ لِي أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ رَبِّي”.
ثُمَّ بَكَى وَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَتُحْرِقُنِي بِالنَّارِ يَا غَايَةَ الْمُنَى *** فَأَيْنَ رَجَائِي ثُمَّ أَيْنَ مَحَبَّتِي
أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ زَرِيَّةٍ *** وَمَا فِي الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِي ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: “سُبْحَانَكَ تُعْصَى كَأَنَّكَ لَا تَرَى، وَ تَحْلُمُ كَأَنَّكَ لَمْ تُعْصَ، تَتَوَدَّدُ إِلَى خَلْقِكَ بِحُسْنِ الصَّنِيعِ، كَأَنَّ بِكَ الْحَاجَةَ إِلَيْهِمْ وَ أَنْتَ يَا سَيِّدِي الْغَنِيُّ عَنْهُمْ”.
ثُمَّ خَرَّ إِلَى الْأَرْضِ سَاجِداً، قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَ شُلْتُ بِرَأْسِهِ وَ وَضَعْتُهُ عَلَى رُكْبَتِي، وَ بَكَيْتُ حَتَّى جَرَتْ دُمُوعِي عَلَى خَدِّهِ، فَاسْتَوَى جَالِساً وَ قَالَ: “مَنِ الَّذِي أَشْغَلَنِي عَنِ ذِكْرِ رَبِّي”؟
فَقُلْتُ: أَنَا طَاوُسٌ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا هَذَا الْجَزَعُ وَ الْفَزَعُ؟! وَ نَحْنُ يَلْزَمُنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا وَنَحْنُ عَاصُونَ جَانُونَ.
أَبُوكَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَ أُمُّكَ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ، وَ جَدُّكَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله )
قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، وَقَالَ: “هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، يَا طَاوُسُ دَعْ عَنِّي حَدِيثَ أَبِي وَأُمِّي وَجَدِّي، خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَ أَحْسَنَ وَ لَوْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيّاً، وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ كَانَ وَلَداً قُرَشِيّاً، أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ وَاللَّهِ لَا يَنْفَعُكَ غَداً إِلَّا تَقْدِمَةٌ [أي هديّة] تُقَدِّمُهَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ” .
ب- حاله عند التهيّؤ للصلاة: ففي الروايات: أنه عليه السلام كان إذا توضّأ للصلاة يصفرّ لونه، وكيف لا تبرز معالم العبادة في ألقابه وهو الذي كان إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيب عليه السلام: “أتدرون بين يدي من أقوم!”
وكان عليه السلام إذا قام في الصلاة غشي لونه لونٌ آخر وأخذته رعدة بين يدي الله تعالى لم يعد عندها يلتفت إلى ما حوله، لذا حينما وقع حريق في بيته وهو ساجد فرَّ مَن في البيت بينما بقي الإمام عليه السلام ساجداً ولمّا سُئَل في ذلك كان جوابه عليه السلام: “ألهتني عنها النار الكبرى”..
ج- خشوعه بين يدي الله : حيث كان اذا دخل في الصلاة تحول وكأنه خشبة لا حراك فيها من شدة خشوعه بين يدي الله يقول الامام الصادق(ع): “كان أبي يقول: كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرّك منه شيء إلّا ما حرّكه الريح منه”.
وعن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إنّي رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة غشى لونَه لونٌ آخر، فقال لي:”والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه”.
وعنه عليه السلام قال:”كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة تغيّر لونه، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتّى يرفضّ عرقاً”. اي يترشش عرقا ويبتل منه.
ويقول أبو حمزة الثماليّ: رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام يصلّي فسقط رداؤه عن أحد منكبه، قال: فلم يُسوِّه حتّى فرغ من صلاته قال: فسألته عن ذلك. فقال: “ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلّا ما أقبل عليه منها بقلبه.
د- قرائته للقران: فعن الامام الصادق عليه السلام ، قال:”كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه، يستمعون قراءته.
وروي أنّه كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته.
ان اعطاء الامام زين العابدين(ع) وقتا واسعا للعبادة لا يعني انصرافه عن القيام بدوره في مقاومة الطغاة والظالمين وتعبئة المجاهدين للقيام بمسؤولياتهم في المواجهة الدائرة مع اعداء الاسلام والامة .
فالإمام عليه السلام وإن لم تتوافّر له إمكانات التضحية والقتال إلى جانب ابيه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الى حدّ الشهادة، لكنّه لم يفقد فرصة المقاومة بالدعاء للمرابطين على الثغور الذين يحفظون الاوطان وثغور المسلمين وأعراضهم، وأموالهم التي يعتقد الإمام أنّها تدخل ضمن واجباته الإمامة ومسؤوليّاته.
لهذا نراه يفتتح هذا الدعاء العظيم بقوله: “اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك، وأيّد حماتها بقوّتك، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك”.
ثمّ يدعو الله أن يمنحهم القوة بزيادة العدد والعُدّة وبما يؤدّي إلى نصرهم، فيقول عليه السلام: “اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وكثّر عِدّتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم،… واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر”.
ثم يبين الامام من خلال الدعاء أهمّ عنصرين يحتاج إليهما المجاهدون وهما المعرفة والبصيرة ، فيقول: “اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وعرّفهم ما يجهلون، وعلّمهم ما لا يعلمون، وبصّرهم ما لا يبصرون”.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى تحفيز كلّ أفراد المجتمع على مساعدة المجاهدين وتقديم العون لهم؛ لأنّ عدم قدرة الجميع على الحضور في الثغور لا يعفيهم من واجباتهم، في الدعم والعون والنصرة من بعيد، بالمال والعتاد والموقف وبكل اشكال الدعم والمساعدة، حتّى الدعاء. فقال عليه السلام: “اللّهمّ وأيّما مسلم خَلَفَ غازياً، أو مرابطاً، في داره، أو تعهّد خالفيه في غيبته، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمدّه بعتاد، أو شحذه على جهاد، أو أتبعه في وجهه دعوةً، أو رعى له من ورائه حرمةً، فأجْرِ له مثل أجره، وزناً بوزن، ومثلاً بمثل، وعوّضه من فعله عوضاً حاضراً يتعجّل به نفع ما قدّم، وسرور ما أتى به…”.
اهلنا الاوفياء على الدوام هنا في لبنان نهلوا من هذه الثقافة فوقفوا الى جانب المقاومة وساندوها ودعموها بكل اشكال الدعم وصمدوا وتحملوا وثبتوا وقدموا التضحيات ولا يزالون على طريقها ، فعلوا كل ذلك من موقع الوعي والمعرفة والبصيرة والوفاء للمقاومة، لانهم وجدوا صدق هذه المقاومة واخلاصها لبلدها وشعبها ورأوا انجازاتها وانتصاراتها وكيف انها اعادت لهم ارضهم وحمت ولا تزال تحمي بلدهم وهي تواصل طريقها وتتحمل مسؤولياتها رغم كل الاستهدافات الخبيثة التي تتعرض له من الداخل والخارج.
كل اللبنانيين يعرفون حجم الانجازات التي صنعتها المقاومة للبنان وحجم التضحيات التي قدمتها المقاومة من اجل الدفاع عن اللبنانيين بكل طوائفهم ومكوناتهم سواء في مواجهة العدو الصهيوني او في مواجهة الارهاب التكفيري، والبيئة المسيحية عموما تعرف هذه الحقائق عن المقاومة وهي ليست بيئة معادية للمقاومة لكن حجم التحريض والتضليل والكذب الذي تمارسه المليشيات المسيحية والاعلام الخبيث المدفوع الثمن الذي يبث الاكاذيب ويعمل على تجييش اللبنانيين ضد المقاومة هو الذي يصنع مناخا معاديا للمقاومة لدى المسيحيين، وما جرى اول امس في الكحالة هو نتيجة هذا التحريض والتجييش والكذب الذي لاينفع في شيء سوى في دفع البلد نحو الفتنة التي يريدها اعداء لبنان وفي مقدمهم العدو الصهيوني .
خلال كل السنوات الماضية خصوصا بعد فشل عدوان 2006 حاول العدو الصهيوني بكل الوسائل منع وصول السلاح الى المقاومة ولكنه فشل ولم يتمكن من منع المقاومة من مراكمة قدراتها ، وما فشل فيه العدو لن ينجح فيه الموتورون في الداخل ولن نسمح لهؤلاء الحاقدين ومن يقف خلفهم ان يأخذوا البلد نحو الفتنة .
وكل مواقف التحريض على المقاومة التي نسمعها من بعض الابواق السياسية والاعلامية التي امتهنت التحريض والتضليل وتزوير الحقائق واثارة الغرائز الطائفية لن تنجح في اخذ البلد نحو الفتنة، لان في لبنان قوى ومقاومة عاقلة وقوية، تصبر من موقع القوة، وتعرف كيف تتصرف بحكمة، وهي حريصة على وحدة البلد وسلمه الاهلي وترفض ان تنجر الى فتن داخلية.
هذه المقاومة التي واجهت العدوان الصهيوني وافشلت اهدافه وصنعت انتصارا للبنان في مثل هذه الايام من العام 2006 وحمت لبنان برجالها وسلاحها ودماء شهدائها ومعادلاتها، لن تتوقف عن العمل، بل ستكمل طريقها، ولا يمكن لأي اعتداءٍ أن ينال من عزمها وإرادتها او يثنيها عن القيام بواجبها الوطني في حماية لبنان وشعبه.