نص الخطبة
واقعة كربلاء هي من أهم الوقائع التاريخية الملهمة التي يمكن أن يستلهم الإنسان منها الدروس ويستخلص منها العبر ويتعظ من أحداثها وما جرى فيها, وهي في نفس الوقت الذي تعتبر فيه من أغنى منابع ومصادر الاستلهام والتحفيز والإثارة لكل طالبي الحق والعدالة
ولكل المجاهدين في سبيل الحق والحرية.. هي أيضاً من أعظم الحوادث مرارة وألماً وقسوة ووحشية , بل هي من أمرّ الحوادث وأعظم الفجائع التي حصلت في تاريخ الإسلام.
فما جرى في كربلاء على الحسين وآل الحسين (ع) من الظلم والقهر والقتل والذبح والسبي وانتهاك الحرمات لم يحصل لأحد في تاريخ الإسلام.
فما هي الأسباب والعوامل التي أدت إلى ما حصل؟
لماذا تقهقرت الأمة وتخاذلت وقصرت عن نصرة ولي أمرها وإمامها المفروض الطاعة؟
عندما ندرس واقعة كربلاء والظروف التي أحاطت بها سنجد أن هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى ما جرى اقتصر منها على ذكر أمرين:
الأول: لا شك أن الدنيا بكل مظاهرها وأشكالها، بمالها وملذاتها وجاهها ومصالحها وشهواتها, هي سبب أساسي ورئيسي في عدم استجابة الناس لنداء الجهاد والمقاومة..
أ ـ التعلق بمظاهر الدنيا والانشداد إلى شهواتها وملذاتها، والميل نحو الرفاه والرخاء, وحب السلامة والعافية والراحة,والاهتمام بجمع المال والثروة، والاستغراق في الملذات في القصور والفلل والسيارات الفخمة والخدم والحشم والسفر وغير ذلك، فإن هذا كله من الأمور التي تصرف الإنسان عن الاهتمام بما يجري حوله أو بما هو مطلوب منه تجاه الأخطار والتحديات التي يواجهها الإسلام أو تواجهها الأمة..
ب ـ طلب الدنيا وحب الجاه والرئاسة والزعامة والسعي للحصول على المواقع والمناصب والملك، فإن حب الإنسان لهذه الأمور وسعيه للحصول عليها بأي وسيلة قد يدفع الإنسان ليس لخذلان الحق فقط بل لنصرة الباطل والوقوف في المعسكر المقابل لمعسكر الحق، وهذا تماماً ما حصل مع رجل كعمر بن سعد الذي كان يريد أن يصل إلى ملك الري الذي وعد به بأي طريق إن هو قاتل الحسين (ع).
فإن طلب الدنيا والسعي للحصول على ملكها ومناصبها وجاهها هو الذي جعل هذا الرجل يخذل الحق وينتصر للباطل ويخسر في النهاية الدنيا والآخرة.
ج ـ الخوف على امتيازات الدنيا وما بأيدينا من مال أو ديار أو رزق أو جاه أو عيال وأولاد. فإن الخوف على فقدان هذه الأمور وضياعها خصوصاً عندما يواجه الإنسان تهديداً بذلك، أو الخوف على مصير ومستقبل هذه الأمور.. يدفع الإنسان في بعض الأحيان للتخلي عن مسؤولياته وواجباته في نصرة الحق والوقوف إلى جانبه.
وهناك نماذج كثيرة في عصر الحسين (ع) خذلوه ولم ينصروه بالرغم من دعوته لهم بسبب خوفهم على أموالهم وعيالهم ومصالحهم تماماً كما يقول البعض عندما تدعوه للقيام بواجباته الوطنية والشرعية، لدي أسرة وأموال ومصالح، وقد تعبت كثيراً حتى جمعت مالي وأسست مصلحتي أو شركتي أو تجارتي، أتريدني أن أتخلى عن كل ذلك وأذهب لميادين القتال؟! ولمن أترك عيالي وأولادي؟! ومن سيتدبر شؤونهم وأمورهم من بعدي؟! إنه الخوف على امتيازات الدنيا إلى الحد الذي تقف هذه الأمور عائقاً وحاجزاً يعيق حركة الإنسان ويحجزه عن الانطلاق إلى الله والقيام بمسؤولياته في نصرة الحق.
د ـ الطغاة والظالمون وأهل الباطل يحاولون باستمرار إغراء الناس أيضاً وشراء ضمائرهم, فهم يعملون على استمالتهم إليهم ببذل الأموال لهم ومنحهم ما يحبون من مناصب ومواقع، فيبتعد الناس عن الحق.
وقد استفاد الحكم الأموي من هذا الأسلوب في مواجهة الحسين (ع) فاشترى ضمائر معظم وجوه أهل الكوفة بالمال أو بالترهيب والتخويف فخذلوا الحسين (ع) وخانوه بعد أن راسلوه ووعدوه بأن يكونوا إلى جانبه إن هو قدم إليهم.
وهذا هو أسلوب الطغاة والمستكبرين والظالمين على امتداد العصور وفي كل زمان ومكان, فقد كانوا ولا يزالون يحاولون شراء ضمائر الناس والنفوس الضعيفة بالمال والجاه والإغراءات المتنوعة من أجل استمالتهم إلى الباطل في مواجهة الحق.
وهو ما تفعله الادارة الأمريكية وحلفاؤها مع بعض الشخصيات والجهات السياسية المعادية لنهج المقاومة في لبنان لاستخدامهم في مواجهة المقاومة والتحريض عليها وتشويه صورتها واتهامها بكل ما يجري في لبنان، وهو ما تفعله الادارة الامريكية وحلفاؤها لصرف الشباب والاجيال عن المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وكل مكان من خلال اغراقهم بالملذات والشهوات والمخدرات والهائهم بالاشياء التافهة حتى لا يفكروا بالقضايا الكبرى التي تتعلق ببلدانهم ومقدساتهم وشعوبهم وامتهم، ولكن كل هذه المحاولات لابعاد الاجيال عن المقاومة فشلت، بدليل ما نشاهده في فلسطين ولبنان من اندفاع الشباب نحو المقاومة وقد شاهدنا في جنين والضفة وكل فلسطين ان ان الذي يقود العمليات ضد الصهاينة هم جيل الشباب وان الذي يحمي لبنان ويثبت المعادلات مع الصهاينة في لبنان هم شباب المقاومة فشبابنا والاجيال الشابة في فلسطين يملكون من الوعي والحصانة ما يجعلهم يرفضون التخلي عن مسؤولياتهم وواجباتهم الوطنية والشرعية لقاء حفنة من الدولارات والمغريات الفانية.
والخلاصة: إن الإنخداع بالدنيا ينسي الآخرة ويدفع الإنسان لإجراء صفقة خاسرة ببيع الآخرة والسعادة الأبدية بدنيا فانية زائلة.
ولذلك نقرأ في زيارة الأربعين عن عن دوافع الذين خذلوا الحسين (ع) في كربلاء: (وقد توازر عليه من غرته الدنيا، وباع حظه بالأرذل الأدنى، وشرى آخرته بالثمن الأوكس، وتغطرس وتردَّى في هواه، وأسخطك وأسخط نبيك, وأطاع من عبادك أهل الشقاق والنفاق وحملة الأوزار والمستوجبين النار).
الثاني: الغفلة عن الأهداف والغايات والقضايا الكبرى التي تتعلق بالاسلام وبواقع ومستقبل الأمة, وعدم الشعور بحجم المأساة الجارية على الصعيد السياسي الاجتماعي والاخلاقي والأمني, وعدم الاهتمام بأمور الدين والإسلام والقيم وقضايا الحق , وغفلة الانسان عن مسؤولياته على هذا الصعد تجعله يتقاعص ويتراجع وينكفأ .
المجتمع في عهد الحسين كان غافلاً عن أهداف الإسلام وقيمه وما يتعرض له من تشويه.. وعن مسؤولياته تجاه ذلك, بسبب استغراقه في أكله وشربه وحياته وانغماسه بشؤونه الخاصة.
كان الإمام الحسين (ع) يحاول أن يرفع حجب الغفلة عن الأمة , وان يوقظها على الحقيقة المرة وعلى الواقع السيء والمتردي الذي وصلت اليه في ظل الحكم الجائر, فقد قال في عاشوراء:
تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم, فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم.
اننا بحاجة الى معالجة حالة التعلق بالدنيا وحالة الغفلة عن مسؤولياتنا حتى لا نقع بما وقع به المتخاذلون والمتخلفون عن نصرة الحق في كربلاء, خصوصاً عندما نقع بين خيارين ويكون المطلوب منا ان نختار جانب الحق ونتحمل مسؤولياتنا تجاهه.
اليوم غفلة الامة عن مسؤولياتها تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني والمقدسات الاسلامية والمسيحية في فلسطين وتخلي الكثير من الحكام والانظمة العربية والاسلامية عن القضية الفلسطينية والشعور بالملل والتعب والاحباط واليأس من قبل الكثير من الشعوب العربية والاسلامية جعل الصهاينة يتمادون في عدوانهم على الشعب الفلسطيني ويمعنون في قتل الشعب الفلسطيني ويدنسون المسجد الاقصى والمقدسات الاسلامية
اليوم الامال باتت معلقة على الاجيال الشابة المقاومة التي تحمل هذه القضية وتدافع عنها وتقدم التضحيات الكبيرة من اجلها رغم كل الظروف الصعبة وعلى الحكومات والدول والشعوب العربية والإسلامية ان تتحمل مسؤولياتها وتقوم بواجباتها الدينية والقومية والأخلاقية والانسانية في مساندة الشعب الفلسطيني في تصديه للاحتلال والدفاع عن حرمة المسجد الأقصى والمقدسات وتقديم كل أشكال الدعم الممكنة لهم، لأنّ هذه القضية هي قضية كل الأمة، والأمة كلّها يجب ان تكون جزءا من هذه المعركة ، بل يجب أن تكون في الخط الأمامي في هذه المعركة إلى جانب الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة.
لقد فشلت كل الخيارات الأخرى في حماية المقدسات، خيارات التسوية والتخاذل والتطبيع، ولم يبقَ لدى الأمة ودولها وحكوماتها لحماية مقدساتها وإستعادة القدس وفلسطين سوى خيار المقاومة ومنطق المقاومة وثقافة المقاومة كخيار وحيد لتحرير القدس والأقصى والمقدسات وفلسطين وإعادتها الى أهلها وإلى الأمة.
خيار المقاومة في مثل هذه الايام من تموز العام 2006 هو الذي منع اسرائيل من تحقيق اهداف عدوانها الوحشي على لبنان.
لقد ارادت اسرائيل سحق المقاومة في لبنان وإخضاع لبنان للشروط الإسرائيلية والاميركية لكنها فشلت وفشل معها مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي ارادت الادارة الامريكية تحقيقه من خلال الحرب ، وإنتصرت المقاومة، ولم تُسحق، وصمد لبنان ولم يخضع لا للشروط الإسرائيلية ولا للشروط الأميركية، بل أسس هذا الانتصار لمعادلة ردع قوية وفاعلة، لا تزال تحمي لبنان وتردع اسرائيل، ولولا هذه المعادلة لكان لبنان مستباحا ومسرحا للاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.
اليوم العدو الاسرائيلي بفعل قوة المقاومة ويقظتها وجهوزيتها لا يستطيع ان يفعل ما يشاء، لانه يخشى ردة فعل المقاومة ويعرف ان المقاومة بالمرصاد ولن تسكت على اي عدوان على لبنان .
المصدر: موقع المنار