نص الخطبة
هذه الايام نقف امام ذكرى المباهلة وهو اليوم الذي باهل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله نصارى نجران بعلي بن ابي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السلام في الواقعة التاريخية المعروفة، وذكرى تصدّق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بخاتمة على فقير وهو راكع في الصلاة ، فنزلت الآية ( ويؤتون الزكاة وهم راكعون )
وبعد ايام ندخل في سنة هجرية جديدة هي سنة 1445 ومحرم هو اسم للشهر الأول من السنة الهجرية، وسمّي هذا الشهر محرماً لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون الحرب فيه أيام الجاهلية، لكن بني أمية لم يحفظوا لهذا الشهر حرمته، فسفكوا فيه دم سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه ، وقد أشار الامام الرضا(ع) الى ذلك بقوله: ” إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ فِيهِ الْقِتَالَ ! فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا ، وَانتهكَتْ فِيهِ حُرْمَتُنَا ، وَسُبِيَ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَنِسَاؤُنَا ، وَأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا ، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثِقْلِنَا ، وَلَمْ تُرْعَ لِرَسُولِ اللَّهِ حُرْمَةٌ فِي أَمْرِنَا “.
ولذلك كان أئمتنا(ع) إذا دخل المحرم دخل الحزن إلى بيوتهم. فقد ورد عن الامام الرضا(ع): كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً ، وَ كَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَ حُزْنِهِ وَ بُكَائِهِ ، وَ يَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ” 3 .
لقد أسس اهل البيت(ع) لمجالس أبي عبدالله وأقاموا المآتم لمصابه, وتذكر كتب التاريخ أنّ أوّل مجلس أقيم بعد واقعة كربلاء مباشرةً هو المجلس الذي اقامته السيّدات العلويّات، زوجات وأخوات وبنات الإمام الحسين عليه السلام والهاشميين الذين استشهدوا معه، وقد وقد اقيم ذلك المجلس في العراء فوق ساحة المعركة، على مشارف غروب شمس اليوم العاشر من المحرّم، ثم أقيم مجلس أخَر في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، وعلى طول الطريق كانت النساء يندبن قتلاهنّ وينشرن مظلومية أهل البيت، عليهم السلام، والمبادئ التي قتل من أجلها الإمام الحسين وأصحابه. ثم أقامت العقيلة زينب عليها السلام وبقية الهاشميات بيتاً للعزاء على الإمام الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية ولا قرشية إلّا ولبست السواد حزناً على الإمام الحسين عليه السلام وندبته.
ثم انتقلت المآتم الحسينية إلى المدينة المنوّرة، «وكانت أوّل من اقام العزاء في المدينة على الحسين، عليه السلام، أمّ سلمة زوج النبي، صلّى الله عليه وآله، حتى ضجت المدينة بصرَخَاتِ النِّساءُ حَتّى سُمِعَ في المَدينَةِ رَجَّةٌ ما سُمِعَ مِثْلُها قَط».
ثم توسعت دائرة المجالس واقامها ائمة اهل البيت جميعا وأمرون شيعتهم باقامتها وإقامة العزاء وانشاد الشعر الحسيني واستماعه والبكاء بل التباكي على الحسين(ع) وزيارته.
ورد عن الامام الباقر(ع) انه قال لمالك الجهني: . ثم ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه،ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسين (عليه السلام)..
وفي وصيّة أبي جعفر الباقر عليه السلام للشيعة: « .. رَحِمَ اللهُ عبداً اجتمع مع آخر وتَذاكَرَ في أمرنا؛ فإنّ ثالثهما مَلَك يستغفر لهما، وما اجتمعتُم فاشتَغلِوا بالذِّكر؛ فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءَ أمرنا، وخيرُ الناس مِن بَعدِنا مَن ذاكَرَ بأمرنا ودعا إلى ذِكرنا »
وعن الرضا(عليه السلام): من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم يموت القلوب الحديث.
وقد استجاب الشيعة ومحبو الحسين لهذا التوجيه فكانوا على طول التاريخ ولا يزالون يحرصون على احياء هذه الذكرى ويتفاعلون معها وقد تحملوا في بعض المراحل الاضطهاد والقمع والخوف والقلق بل والقتل نتيجة اصرارهم على احياء هذه الذكرى .
إن اهتمام أئمة أهل البيت (ع) باحياء هذه الذكرى وتوجيه وحث شيعتهم وعموم المسلمين على إحيائها واقامة المآتم والعزاء بعاشوراء يعود لعدة اسباب ابرزها:
أولا: التأسي والإقتداء برسول الله (ص) فرسول الله (ص) اول من اظهر الحزن و الألم وأول من بكى لهذه الفاجعة قبل وقوعها بنصف قرن. فمنذ ولادة الحسين (ع) كان رسول الله بين الحين والآخر يتحدث للأمة عن هذه المأساة لان جبرائيل كان قد اخبره عن الله أنه يقتل في ارض يقال لها كربلاء وناولها تربة حمراء من تربته.. وكان النبي(ص) كلما رأى الحسبن يدخل الحزن الى قلبه ويتألم ويبكي.
اذن نحن تأسيا برسول الله(ص) واتباعا لاهل البيت (ع) نحي مناسبة عاشوراء ويجب ان نحافظ على هذا الاحياء بصورته التقليدية وان نقيم المجالس بالشكل الذي اعتدنا عليه منذ زمن طويل.
ثانيا: إحياء هذه المناسبة فيه الكثير من الأثار و النتائج والفوائد والعطاءات والبركات: لماذا يلومنا البعض على إحياء مناسبة فيها منافع روحية وثقافية واجتماعية وسياسية؟
نحن نحي مناسبة فيها الكثير من المكاسب دينية وأخلاقية وسلوكية؟
مناسبة عاشوراء هي موسم ثقافي تربوي توجيهي لا يوجد في كل المجتمعات البشرية مايشبه هذا الموسم.
عاشوراء هي مدرسة ثقافية واجتماعية وسياسية لها تأثير كبير في قلوب الناس وعقولهم.
وأئمة أهل البيت(ع) هم الذين دفعوا بهذه المناسبة الى أن تأخذ هذا الشكل فتقام في كل سنة وتتحول الى مدرسة ذات أعراف وتقاليد وعادات.
توجد في العالم مناسبات كثيرة: مهرجانات ثقافية, معارض كتب , انشطة ثقافية تصرف عليها ميزانيات ضخمة وتسلط عليها الأضواء الإعلامية ويتم دعوة الناس إليها لكن لا يوجد مثل موسم عاشوراء.
إحياء عاشوراء في الغالب هو جهد شعبي وإندفاع ذاتي يشارك فيه الجميع حيث تعم المجالس كل أنحاء العالم.. و ليس منطقة خاصة.
عاشوراء موسم ثقافي ديني يشد الناس الى دينهم ويعمق إرتباطهم بالله وبرسول الله(ص) وبأهل البيت (ع).
إحياء عاشوراء إحياء للقيم الايمانية والرسالية والاخلاقية والانسانية.
عاشوراء مناسبة تدعو الناس الى التمسك بالقيم والاخلاق لأنها تختزن كل القيم الاخلاقية والانسانية من الصدق الى الوفاء والايثار والصبر والثبات والإباء والبصيرة والشجاعة والتضحية والعطاء في سبيل الله بلا حدود, هي نعمة لها انعكاسات كبيرة جدا.
اول واهم رسالة لعاشوراء هي الإلتزام بقيم الإسلام وأحكامه وتشريعاته, محبة الحسين (ع) والتشبه بأهل البيت (ع) في جوهره وحقيقته ما هو الالتزام بقيم الدين واخلاقه.
الجميع في ايام عاشوراء يتركون أعمالهم وارتباطهم ويشاركون في المجالس, ولا شك ان هذا له ثواب كبير واجر عظيم, ولكن هذه المشاركة يجب ان تكون مرافقة للالتزام بالدين واحكامه.
الحسين (ع) ضحى بنفسه وقدّم اهل بيته واصحابه من اجل الدين.
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني
العباس (ع) يقول : والله إن قطعتموا يميني إني أحامي أبدا عن ديني
الدين الذي ضحى من اجله الحسين والعباس أمانة بأيدينا جميعا يجب ان نخرج من هذه المجالس أكثر تمسكا والتزاما باحكام الدين وقيم الدين واخلاق الدين وضوابط الدين.
الدين الذي ضحى من اجله الحسين يستحق أن نضحي من أجله بشهواتنا وأهوائنا وغرائزنا ومصالحنا وأطماعنا.
الشهوات والمغريات والتحديات كثيرة خاصة على الشباب والفتيات وما يساعد على المواجهة والوعي والصبر و الثبات والتمسك بالدين هذه المجالس..
لذلك المطلوب في عاشوراء اذا اردنا إحياء أمر أهل البيت(ع):
أولا: الحضور الشخصي والمباشر في المجالس ، ويجب أن نحضر رجالا ونساء واطفالا حضورا مباشرا, فلا يكفي الاستماع الى العزاء في البيوت عبر شاشات التلفزة ، فالحضور المباشر يساعد على التفاعل بشكل أكبر إن لجهة تحصيل المعرفة أو لجهة إظهار الحزن والبكاء.
ثانيا: إبراز مظاهر الحزن والحداد والسواد في المجالس في اللباس في البيوت والشوارع والمحال التجارية والمؤسسات والأماكن العامة، وإظهار الحزن من عامة الناس كباراً وصغاراً، نساءا ورجالاً، وعدم القيام بما يتنافى مع حالة الحزن والأسى والحداد طيلة محرم، تأسيا بأهل البيت(ع).
وخلال المشاركة في المجالس لا بد من مراعاة مجموعة أمور:
-الحضور في الوقت المحدد للاستماع إلى المحاضرة وعدم الاكتفاء بالحضور وقت مجلس العزاء فقط، لأنّ المطلوب هو التعرف على أهل البيت(ع) وقيمهم وتعاليمهم ومعاني عاشوراء وهذا لا يحصل إلا بالاستماع الى المحاضرة والمجلس معاً، والأجر الذي يناله الشخص من الاستماع إلى الموعظة لا يقل عن أجر الاستماع إلى المجلس.
-الجلوس في الأماكن المحددة داخل المجلس، وعدم التجمع في الممرات والطرقات وعلى مداخل المجلس، وعدم التدافع عند الدخول والخروج خصوصاً في حالات الازدحام، فعلى الجميع عند الشروع في انعقاد المجلس من حين البدء بقراءة القرآن إلى انتهاء المجلس أن يكون داخل المجلس مستقرا في مكانه حفاظا على الترتيب والهدوء ومن أجل تحصيل الفائدة المرجوة..
-الانصات حال انعقاد المجلس واجتناب الأحاديث الجانبية والحفاظ على الهدوء أثناء إلقاء الكلمة أو أثناء تلاوة المجلس.
-البكاء في المجالس أو التباكي، والحفاظ على حالة الحزن وعدم المزاح والضحك واللعب داخل المجلس.
– عدم خلع القمصان في مجالس اللطم لانه امر غير مناسب.
-الحفاظ على النظافة والترتيب وعدم رمي النفايات في المجلس او في المحيط او على الطرقات، فكل واحد يستطيع أن يضع الفضلات في كيس ويحمله إلى سلة المهملات أو مستوعبات النفايات.
-عدم الاختلاط بين النساء والرجال، والالتزام بالحجاب الشرعي للأخوات، وكذلك عدم اتخاذ المجلس مكاناً للمواعدة واللقاء بين الشباب والفتيات، فإن ذلك لا يتناسب مع أجواء وحرمة المناسبة.
-عدم رفع المذياع من السيارات في عاشوراء وإزعاج الناس، او القيام بتسكير الطرقات والممرات من قبل غير الجهة المنظمة، والحفاظ على الهدوء وحرمة هذه المناسبة بشكل عام.
-سنة الاطعام في عاشوراء وفي الاربعين واقامة المضافات هي سنة حسنة وليست بدعة، بل هي سيرة قائمة منذ زمن أئمتنا عليهم السلام إلی يومنا هذا، فقد روى البرقي عن الإمام السجاد عليه السلام قوله: «لما قتل الحسين بن علي عليه السلام لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين عليه السلام يعمل لهن الطعام للمأتم
فالإمام السجاد عليه السلام كان يقوم بهذه السنة وهذه الخدمة، وعلی ذلك جرت سيرة اتباع أهل البيت عليهم السلام في كل البلدان. والإطعام في عاشوراء وغيره من المناسبات هو إطعام لله ولوجه الله تعالی، فإن أُطلق عليه إطعام للحسين عليه السلام ، فذلك لأنّ المقصود أنّ ثوابه للحسين عليه السلام
اليوم تراكم الازمات الداخلية والعجز عن حلها وضع البلد على حافة الانهيار على كل المستويات.
فالانسداد الرئاسي يتعمق يوما بعد يوم، والتردي في الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية يزداد اكثر فاكثر، والخطابات الطائفية والدعوات الانفصالية المبطنة تحت عناوين الفدرالية واللامركزية الادارية الموسعة بدأ يعلو صوتها وتتوسع، وبالتالي نحن امام مشهد قاتم على كل المستويات مع غياب اي مبادرات وطنية جامعة لايجاد المعالجات والحد من تفاقم الاوضاع نحو الاسوء .
ومما يزيد من تفاقم الاوضاع الداخلية ان هناك احزابا وجهات لبنانية تعمل على تعميق الانقسام الاسلامي المسيحي في البلد لتكرس مفاهيم الانفصال والتقسيم والفدرالية بين اللبنانيين وللقول للمسيحيين بانه لا امكانية للعيش المشترك مع المسلمين.
هذه المحاولات خطيرة جدا وهي تكشف حقيقة وهوية من يريد تغيير تركيبة النظام في لبنان وضرب الصيغة اللبنانية.
من يريد تغيير تركيبة النظام في لبنان هم من يتحدث عن التقسيم والفدرالية ويدعو اليها ويحاول تكريس مفاهيمها في وجدان اللبنانيين، وهم معروفون باحزابهم وشخصياتهم لدى كل اللبنانيين، وليس الثنائي الشيعي الذي طالما نفى على لسان قيادييه هذا الاتهام، فالثنائي لم يدعو يوما الى تغيير النظام او تعديل اتفاق الطائف ولسنا في هذا الوارد على الاطلاق، لكن هناك من يصر على اتهام الثنائي وحزب الله بهدف التشويه وتضليل الرأي العام وتوتير المناخ الطائفي في البلد وتخويف اللبنانيين من بعضهم .
هذه المناخات لا يستفيد منها احد وهي بالتأكيد ضد مصلحة لبنان واللبنانيين ولا تساعد على انجاز الاستحقاق الرئاسي، فقدرنا في هذا البلد ان نعيش سويا وبدلا من التلهي بطروحات مريبة وغير قابلة للتحقق فلنفتش القواسم المشتركة التي تجمع بين اللبنانيين وتحافظ على وحدتهم الوطنية وعيشهم الواحد وتحمي بلدهم من التهديدات والاخطار .