في 17 أيار 1983، كان للبنان أن يكون الدولة العربية الثانية بعد مصر (وقعت اتفاقية كامب دايفيد في 17 أيلول/سبتمبر عام 1978) التي توقع اتفاقية تطبيع مع كيان العدو الاسرائيلي. يا للمفارقة! هو لبنان نفسه وبعد سبعة عشر عاماً، بات الدولة العربية الوحيدة التي حققت انتصاراً غير مشروط على الاحتلال الاسرائيلي عام 2000. ما الذي حدث إذاً؟ مما لا شك فيه أن بين التاريخين أحداث وتغيرات كبرى نقلت لبنان من مرحلة الخنوع والاستسلام، من “الزمن الاسرائيلي” كما كان يُقال، إلى مرحلة الانتصار الكبير أو “زمن المقاومة”.
بحسب مطلعين على تلك الحقبة، فإن “اتفاق 17 أيّار كان إعادة رسم للميثاق الوطني والدستور اللبناني، بحيث كان الاتفاق خروجاً شبه رسمي للبنان من الجامعة العربيّة، وهو ذهبَ أبعد من اتفاق السلام المصري-الإسرائيلي بكثير”.
لكن وبالرغم من كل ذلك، بالرغم من أن القائمين على السلطات الثلاث الرئاسية والتنفيذية والتشريعية (الرئيس أمين الجميل، والرئيس شفيق الوزان، والرئيس كامل الأسعد)، أقروا بقبول الاتفاقية، معلنين بذلك بدء مرحلة سياسية واجتماعية وثقافية جديدة للكيان اللبناني، إلا أن جزءاً من البيئة الشعبية في لبنان أدركت جدياً خطورة ما يجري، فأسقطت كل ما رُسم. هي نفسها تلك البيئة التي لم تقف عند حدود إسقاط الاتفاقية، بل تابعت طريق المواجهة حتى النهاية، حتى هذه اللحظة، ليصبح لبنان أكثر من يؤرّق أمن “اسرائيل” وأكثر من يهدد وجودها وردعها.
هذا الرفض الشعبي لاتفاقية التطبيع، سبق أن عكسه النائب السابق نجاح واكيم (ممن صوتوا ضد الاتفاقية)، إذ قال إن “المفاوضات (بشأن الاتفاقية) لم تجرِ بين لبنان و”إسرائيل،” بل بين الوفد الإسرائيلي والوفد الأميركي. أما عن الوفد اللبناني، فبعض أعضائه…كانوا موظّفين لدى المخابرات الأميركيّة، لم يُعتمد في تشكيل الوفد أيّ توزيع”، أي أن الوفد اللبناني لم يكن ممثلاً من كل الأطياف اللبنانية الأساسية ولم يكن شرعياً بحيث لم يكن فعلياً يفاوض باسم الشعب اللبناني.
وهذا ما حدث فعلياً، لم ينتظر جزء من اللبنانيين أن يستفتيهم أحد على تغيير هوية بلدهم وموقعه في المنطقة ومن الصراع العربي الاسرائيلي. رأى هؤلاء الذين كانوا في طور تطوير نواة مقاومة للاحتلال الذي وصل في (حزيران/يونيو 1982) إلى العاصمة بيروت واستطاعوا طرده، أنها اللحظة المفصلية التي لا تحمل انتظاراً ولا خنوعاً.
نزل هؤلاء إلى الشارع وانتفضوا لأجل هويتهم وهوية أبنائهم والأجيال المقبلة وقالوا “لا”، فكان قرار الرئيس السابق أمين الجميل (الذي جاء خلفاً لأخيه بشير الجميل (انتخب تحت ضغط اسرائيلي وأميركي معلن، واغتيل بعد انتخابه بشهر تقريباً)، واستكمالاً لمشروع حمله الأخير على دبابات العدو)، كان قراره سحق كل من يقف في وجه مشروعه فحرّك وحدات من الجيش اللبناني لتطويق جامع “بئر العبد” في الضاحـية الجنوبية حيث كانت تخرج المظاهرات الاحتجاجية، وخلال الاشتباك سقط الشهيد محمد نجدي.
بعدها، توسّعت حالة الغضب الشعبية وتصاعدت حالة المقاومة مع تدخّل ميليشيات الكتائب وتعرّضها لأحزاب المقاومة، لتندلع انتفاضة 6 شباط/فبراير، التي كانت سبباً في إسقاط “اتفاقية 17 أيار” مع الكيان المؤقت، والإطاحة بطموحات الجميل.
كانت انتفاضة شباط، انطلاقةً للزمن الجميل الذي أوصل لبنان إلى يوم الخامس والعشرين من أيار/مايو 2000، وبعدها إلى تموز/يوليو 2006، وغيرها الكثير من المحطات العظيمة المشرفة. في ذكرى التوقيع على “الاستسلام للعدو”، هناك من لا يزال يحلم بالعودة إلى هناك، لكنه مجرد حلم خبيث لا مكان له في لبنان، أيها العملاء.
المصدر: موقع المنار