نص الخطبة
من المعروف تاريخيا انه أُتيحت للإمام الصادق(ع) فرصة لنشر علومه ومعارفه التي اخذها عن آباءه واجداده عن رسول الله(ص) والتصدي لبيان معالم مذهب اهل البيت(ع) ما لم يتح لغيره من الائمة(ع)، فقد عاش معظم أئمة أهل البيت(ع) ظروفا صعبة وقاسية نتيجة الرقابة والضغوط وسياسة التضييق والإقصاء والقمع التي مارستها السلطة الاموية ولاحقا العباسية عليهم، فلم يتمكنوا من نشر علومهم على نطاق واسع، بينما توافرت للإمام الصادق(ع) ظروف وعوامل ساعدت هذا الامام على التحرك بحرية نسبية، والقيام بدور واسع على الصعيد العلمي والفكري وعلى صعيد بلورة المعالم التفصيلية لمذهب اهل البيت(ع)، واهم هذه العوامل هي:
اولا: انشغال الأمويين والعباسيين عن الامام الصادق(ع) بالصراع على السلطة، ولاحقا إنشغال العباسيين بعد استيلاءهم على السلطة من الأمويين بتثبيت حكمهم وتأسيس دولتهم الجديدة، مما سمح للامام(ع) التحرك بحرية والقيام بدور واسع وبيان ونشر معارف اهل البيت(ع) في مختلف المجالات بعيدا عن المضيقات التي كانت تقوم بها السلطة ضد حركة ائمة اهل البيت(ع)، فقام الامام مثلا: بتطوير الجامعة التي اسسها ابوه الامام الباقر(ع) فكانت تضم في زمنه اكثر من ٤٠٠٠ عالم ومفكر ومحدث، وبعضهم من ائمة المذاهب، وكانت هذه الجامعة تعمل على تربية العلماء والمفكرين في مختلف الاختصاصات، وتبين مبادىء واصول ومعالم مذهب اهل البيت(ع) .
يقول الحسن بن عليّ الوشّا، وهو أحد أصحاب الإمام الرضا (ع): “دخلت يوماً مسجد الكوفة، فوجدت فيه تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمد الصادق”. .
ولذلك كثرت الروايات والاحاديث المروية عنه(ع)، حتى أن أكثر الأحاديث الموجودة في كتب الحديث والفقه والاخلاق وغيرها الشيعية مروية عنه.
وقد ذكر بعض المؤلفين أن عدد الرواة الذين رووا احاديث الامام الصادق(ع) بلغ أربعة آلاف راوٍ ومحدث، وقد روى احدهم عنه(ع) ثلاثين ألف حديث، وهذا يعني ان عدد الاحاديث المروية عنه تعد بعشرات الالاف، لانه إذا كان راو واحد يروي عنه ثلاثين الفا فكم ستكون رواية الباقين؟.
ولم يروي عنه(ع) المحدثون الشيعة فقط بل أخذ عنه وروى عنه كبار العلماء الذين عاصروه من أهل السنة، ومنهم مالك وأبو حنيفة والسفيانان وأيوب وابن جريح وشعبة وغيرهم، بل ان ابن أبي الحديد المعروف يرجع فقه المذاهب الأربعة إلى الامام الصادق(ع).
اذن الجو السايسي الذي ساد في عصر الامام والتهاء السلطة بصراعاتها اتاح للامام ان يقوم بهذا الدور الكبير، هذا اولا.
ثانيا: ان المرحلة التي عاش فيها الامام كانت مرحلة انتشار العلوم والمعارف ونشوء المذاهب والانفتاح على مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية حتى الاتجاهات الالحادية والضالة، وكانت هذه الأجواء تشكل فرصة للامام(ع) لبث علوم اهل البيت(ع) وبيان الحق والتصدي للاتجاهات المنحرفة والضالة وبيان بطلانها، وبلورة الطروحات الاسلامية الاصيلة.
وقد حدثنا التاريخ عن الكثير من المناظرات والمحاججات والنقاشات والحوارات التي كان يخوضها الامام مع الاتجاهات المختلفة الاسلامية وغير الاسلامية وانفتاحه على كل حوار ونقاش يخدم الحقيقة.
ثالثا: ان الفترة التي تولى فيها الامام مقاليد الإمامة كانت فترة طويلة نسبيا فقد تجاوزت مرحلة امامته الثلاثين سنة، وهذه المدة الطويلة اتاحت للامام ان يبين الكثير من الحقائق والعلوم والمعارف مما لم يتسنى لغيره من الائمة الذين لم تكن مدة امامتهم طويلة القيام به.
ولاجل كل ما ذكرناه اصبح مذهب التشيع ينتسب الى هذا الامام(ع)، فقد عرف هذا المذهب تاريخيا ومنذ زمن الامام الصادق (عليه السلام)، وإلى يومنا هذا بالمذهب الجعفري، وعُرفَ الشيعةُ بالجعفرية، ولذلك نجدُ الامام الصادق (ع) في العديد من الاحاديث يستخدم مصطلح “شيعة جعفر”، وكذلك أصحابه كانوا يستخدمون هذا المصطلح، فالسبب الذي جعل هذا المذهب ينتسب الى الامام الصادق(ع) اذن، هو الدور الذي قام به الإمام (عليه السلام) على مستوى بلورة المعالم التفصيلية للتشيع كمذهب واطار عقائدي وفكري وفقهي يمثِّلُ الإسلام الأصيل.
فمصطلح (الشيعة) وإنْ كان قد استخدِمَ سابقاً على لسان النبي والأئمة الاطهار(عليهم السلام)، إلا أنَّ معالِمَهُ لم تكن واضحةً بحيثُ يتميَّزُ عن بقية الفرق والمذاهب الإسلامية، الى ان جاء الإمام الصادق (عليه السلام) الذي اتيحت له الفرصة نتيجة العوامل والظروف التي اشرنا اليها للكشف عن المبادىء والعقائد والمفاهيم الشيعية المتكاملة والفقه الشيعي المتكامل ، والعملَ على إعداد العلماء والمفكرين والمحدثين والفقهاء الشيعة الذين انتشروا في انحاء العالم الاسلامي .
فإذا كان رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله) قد أسسَ مباني الإسلام، وعملَ المعصومون بعدهُ على تشييد هذه المباني وحراستها، فإنَّ الإمام الصادق قد شيَّدَ التشيُّعَ بأبراز معالمه. فلذلك عُرف الشيعة بشيعة جعفر والجعفرية، وعُرف الامام (عليه السلام) برئيس المذهب.
وقد حدد الامام في العديد من احاديثه ووصاياه صفات الشيعة على المستوى الايماني والرسالي والاخلاقي والسلوكي زالاجتماعي والجهادي، فليس الشيعي من ينتمي الى التشيع بالهوية ودوائر النفوس واحراجات القيد اوالذي يرتبط باهل البيت(ع) بالمحبة والعاطفة والوجدان والمشاعر وانما هو من ينتمي اليهم بالعمل والسلوك والممارسة ويجسد كل ابعاد التشيع في حياته.
فليس كل من يدعي الانتساب لجعفر بن محمد، ينسب لجعفر، وليس كل من يحب جعفر واهل البيت ينتسب اليهم، إنما المنـتسبين لجعفر هم خصوص من يملكون صفات معينة، وبدونها لا يصح لهم الانتساب لجعفر والادعاء بانهم من شيعته، فما هي هذه الصفات والخصاص؟.
عندما نعود الى الاحاديث المروية عن الامام الصادق(ع) بهذا الخصوص سنجد ان ابرزالصفات التي ينبغي أن يتحلى بها من يريد أن ينـتسب إلى الامام جعفر الصادق(ع) وائمة اهل البيت والتشيع هي :
اولا: الايمان والتقوى والورع، بحيث يكون كلّ واحدٍ منهم النموذج الذي يُحتذى به في ايمانه والتزامه ووتقواه وورعه وعبادته وطاعته لله سبحانه وتعالى ، فلا ينبغي كما دلت الاحاديث الواردة عن الامام الصادق(ع) أن يكون في البلد والمجتمع أورع أو أتقى او اشد التزاما بطاعة من شيعتهم، تماما كما كان أهل البيت عليهم السلام في مجتمعهم.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم.
ويقول (عليه السلام): فإنّما شيعة عليّ مَن عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر.
ويقول (عليه السلام): ليس من شيعتنا مَن يكون في مصر يكون فيه آلاف ويكون في المصر أورع منه.
ثانيا: الاستقامة والتحلي بمحاسن الاخلاق واظهار الصورة الحسنة وتقديم النموذج الذي يقتدي ويتأسى به الاخرون : يقول الإمام الصادق عليه السلام: “إنّما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حقّ، والذي إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، والذي إذا قدر لم يأخذ أكثر من ماله”.
وقال عليه السلام: “لو أنّ شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة، ولأظلّهم الغمام، ولأشرقوا نهاراً، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا الله شيئاً إلاّ أعطاهم”.
وفي وصاياه لأصحابه يقول (ع) بعد ان اوصاهم بالقوىوالورع:
فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل:هذا جعفري ويسرني ذلك، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل:هذا أدب جعفر.
فنحن ننتسب إليهم والخطأ الذي يصدر منا يُسهم في تشويه الصورة الناصعة والمضيئة لهم كما يقول الإمام الصادق عليه السلام في الحديث الشريف: “يا معشر الشيعة، إنّكم قد نُسبتم إلينا، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً”، وفي حديث اخر يقول (عليه السلام): معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، احفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول.
فأهل البيت(ع) لم يتركوا فضيلةً إلا وسبقوا الناس إليها كما لا يوجد فعل قبيح إلا وسبقوا الناس إلى تركه واجتنابه .
ثالثا: مواساة الأغنياء للفقراء: عن محمّد بن عجلان قال: كنت مع أبي عبد الله عليه السلام فدخل رجل فسلّم، فسأله: كيف من خلّفت من إخوانك؟، فأحسن الثناء وزكّى وأطرى،فقال له ” كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال قليلة، قال: كيف مواصلة أغنيائهم لفقرائهمفي ذات أيديهم؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً ما هي فيمن عندنا، قال: فكيف يزعم هؤلاء أنهم لنا شيعة؟!”.
رابعا: حسن معاشرة الناس ومعاملتهم بالحسنى: قال الإمام الصادق عليه السلام: ” يا شيعةَ آلِ محمّد! إنّهُ ليسَ مِنّا مَنْ لمْ يملِكْ نفسَهُ عندَ الغضبِ، ولمْ يُحِسنْ صُحبَةَ مَنْ صَحِبَهُ، ومُرافقةَ مَنْ رافَقَهُ، ومُصالَحَةَ مَنْ صالحَهُ، ومخالفةَ مَنْ خالَفَهُ”.
خامسا: التواصل مع الآخرين الذين نختلف معهم والانفتاح عليهم والانخراط معهم في حياة اجتماعية كاملة: فعن زيد الشحام عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: “يا زيد! خالِقُوا الناسَ بأخلاقهم، صَلُّوا في مساجدهم، وعُوْدوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمةَ والمؤذِّنين فافعلوا، فإنَّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً! ما كان أحسنَ ما يؤدِّبُ أصحابه!!
وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاءِ الجعفرية، فعل الله بجعفر! ما كان أسوءَ ما يؤدِّبُ أصحابَه!!”.
وانطلاقا من هذه التعاليم كنا ولا زلنا منفتحين على شركائنا في الوطن وحريصين على وحدة بلدنا والعيش الواحد بين جميع مكوناته، وما يهمنا هو مصلحة بلدنا ، فنحن قدمنا اغلى ما عندنا من شهداء قادة من امثال الشهيد السيد عباس الموسوي والحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدرالدين وغيرهم من القادة الشهداء في سبيل ان نبقى اعزاء في وطننا، وبفضل جهادهم وعطاءاتهم اصبح وطننا قويا وعزيزا ونموذجا في التضحية والفداء ومقاومة الاحتلال وحفظ السيادة والاستقلال والكرامة الوطنية ورفض التبعية اوالخضوع للاعداء وتهديداتهم .
لقد واجهنا أشدَّ الناس عداوة وهم الصهاينة والتكفيريين واستطعنا بقوة الايمان والارادة والمقاومة والصبر والثبات ان نهزمهم وان نحرر ارضنا ونحمي بلدنا.
واليوم العدو الصهيوني الذي يهدّد كل المنطقة يتجنب الاعتداء على لبنان لأنّ في لبنان مقاومة تردعه وتشكل تهديدا وجوديا لكيانه، ويتجنب توسيع دائرة عدوانه المستمرعلى غزة لان في غزة مقاومة ترعب العدو وتهدّد عمق كيانه، لا تتراجع ولا تضعف، وهي على أتم الاستعداد والجهوزية للمضي في هذه المواجهة مهما طالت حتى تحقيق شروطها .
لقد كان العدو الصهيوني يتوهم ان باغتياله لقادة من الجهاد الاسلامي يمكنه اصلاح صورة الردع الاسرائيلي المتآكل ووقف اطلاق الصواريخ من غزة واعادة اللحمة الداخلية للمجتمع الاسرائيلي المنقسم على نفسه والغارق بالصراعات والخلافات، الا ان حساب الميدان جاء على خلاف ما كان يرغب به نتنياهو، فلا الصواريخ توقفت بل ازدادت كما ونوعا وعمقت من صورة الردع الاسرائيلي المتآكل، ولا اللحمة الداخلية تحققت، وبات نتنياهو في ورطة لا يعرف كيف يخرج منها.
اليوم المقاومة وبعد ايام من الاجرام الصهيوني في غزة تؤكد من خلال إستمرار اطلاق الصواريخ على عمق الكيان انها تملك زمام المبادرة، وان العدو يمكنه ان يبدأ العدوان لكن لا يمكنه التحكم بمسار المعركة وانهائَها بالتوقيت الذي يريده.
واذا كان نتنياهو يظن انه يتحكم بمسار المعركة وعدم إنزلاق المواجهات الى ساحات اخرى واهداف أكثر حيوية في العمق الاسرائيلي فهو واهم، فالمقاومة حاضرة في المعركة بكل فصائلها، وهي تملك القدرة على توسيع نطاق المعركة وضرب العمق، وانهاء المعركة لن يكون الا بتوقيتها وشروطها.