تحمل زيارة الرئيس الإيراني السيد ابراهيم رئيسي إلى سوريا، العديد من الدلالات، خصوصاً وأنها تأتي في ظل مجموعة متغيرات إقليمية ودولية، تجعل من فهم سياق هذه الخطوة أمرًا ضروريًا لمعرفة أبعادها ونتائجها المتوقعة؛ خصوصًا أنها الزيارة الأولى لرئيس إيراني منذ الحرب على سوريا عام 2011.
ولا بد بداية من إلقاء نظرة على تطور العلاقات الإيرانية – السورية، فهي وإن كانت سابقة على إنتصار الثورة الإسلامية في ايران، فإن عام 1980 شكل نقطة تحول في العلاقة، وتصاعدت إلى أن وصلت إلى مرحلة التحالف الإستراتيجي والعسكري.
مرحلة التحالف السياسي والتعاون الثقافي (1979 – 1990)
في أيلول من العام 1987، انضمت ايران إلى جانب ليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى محور رفض اتفاقيات كامب ديفيد، بين مصر والكيان المؤقت والولايات المتحدة، ومع الحرب المفروضة على ايران من قبل النظام العراقي السابق، في خريف العام 1980، بنت سوريا قناة تحاور غير مباشر بين دول الخليج وإيران.
وافتتحت الجمهورية الإسلامية عام 1983، أول مركزًا ثقافيًا لها في سوريا في ضاحية المزة في العاصمة دمشق، ثم نُقل إلى قلب دمشق قبالة ميدان الشهداء. وفي منتصف الثمانينات، تم تأكيد العلاقة على أهمية انعكاس التحالف بين البلدين على موازين القوى الداخلية والنفوذ الإقليمي.
دعمت سوريا إيران خلال الحرب المفروضة، خصوصاً بين سنتي 1986 – 1988، وفي نهاية الثمانينات، بات التحالف السوري مع إيران، أوسع وأشمل في ظل تطورات أحداص الصراع مع الكيان الصهيوني، وصعود المقاومة في لبنان وفي فلسطين المحتلة.
مرحلة وضوح الرؤى وتبلور ملامح التحالف المقاوم (1990 – 2000)
رفضت سوريا كما ايران مؤتمر مدريد لـ “السلام” عام 1993، وبقيت سوريا طرفاً أساسياً في الصراع مع الكيان المحتل. ووسط هذه الأوضاع، زار الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إيران في الأول من آب 1997، والتقى نظيره الإيراني آنذاك الشيخ هاشمي رفسنجاني والإمام السيد علي الخامنئي.
مرحلة ثبات المحددات والمواجهة المشتركة (2001 – 2011)
وبعد وفاة الرئيس حافظ الأسد عام 2000، استمر التحالف الإيراني-السوري، وثبتت الرؤى والأهداف والمواقف من عملية التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي. وفي عام 2001، زار الرئيس بشار الأسد طهران، والتقى السيد الخامنئي، ورئيس الجمهورية آنذاك السيد محمد خاتمي. وتوجه التعاون الثنائي بتوقيع إتفاقيات عدة، توجت في حجيران عام 2006، بتوقيع اتفاق للتعاون العسكري ضد التهديدات المشتركة التي يشكلها كيان الإحتلال والولايات المتحدة.
كما تكررت زيارة الرئيس الأسد إلى طهران علم 2007، في عهد الرئيس أحمدي نجاد، الذي زار دمشق أيضاً عام 2010.
وفي هذه المرحلة، بدأت تتبلور ملامح محور المقاومة والممانعة، ورسمت ملامح مكاسب استراتيجية عامة تتجاوز المكاسب الداخلية الضيقة لكلا الطرفين وذلك عبر بناء نفوذ مواجهة المشاريع الأمريكية- الإسرائيلية، لا سيما مشروع الشرق الأوسط الجديد في تفتيت المنطقة وتقسيم دولها، من احتلال العراق 2003، إلى عدوان تموز 2006، وصولًا إلى الحرب على سوريا 2011.
وقبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب، تم توقيع اتفاقية للغاز الطبيعي بقيمة 10 بلايين دولار مع سوريا والعراق لبناء خط أنابيب للغاز، يبدأ من إيران ويمر في سوريا ولبنان، ويصل إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط.
مرحلة توثيق التحالف في ظل حرب الإرهاب (2011 – 2019)
سريعاً كانت الاستجابة الإيرانية لطلب الدولة السورية في تقديم الدعم اللازم وعلى المستويات كافة، مع بدء الأحداث المسلحة في سوريا، إيمانًا بأهمية الحفاظ على موقع سوريا في التوازنات الإقليمية، وضرورة تقويض مساعي تحجيم دورها الإقليمي.
وفي هذه الفترة، تم التوقيع على اتفاق تجارة حرة رمزي عام 2011، لمحاولة التقليل من تأثير العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض دول الجامعة العربية. وفي كل مرحلة الحرب الكونية على سوريا، استمر الدعم الإيراني، على المستوى العسكري والسياسي والاقتصادي رغم كل الظروف الصعبة وتداعياتها.
وتوج مسار التعاون هذا، في القضاء العسكري على التنظيمات الإرهابية في سوريا، وعلى رأسها داعش، واستعادة السيطرة على معظم الأراضي السورية.
مرحلة التحالف ضد الحصار الاقتصادي الأمريكي وتعزيز التعاون (2020 – 2023)
وقام التحالف بين ايران وسوريا على التحالف على مبدأ احترام سيادة الدولة السورية وقرارها ووحدة أراضيها. وفي كانون الثاني 2019، تم توقيع على 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبرنامجًا تنفيذيًّا لتعزيز التعاون بين البلدين في المجال الاقتصادي والعلمي والثقافي والبنى التحتية والخدمات والاستثمار والإسكان وذلك في ختام اجتماعات الدورة الـ 14 من أعمال اللجنة العليا السورية – الإيرانية المشتركة التي عقدت في دمشق.
وفي 25 شباط 2019، زار الرئيس بشار الأسد، والتقى المسؤولين وعلى رأسهم الإمام السيد علي الخامنئي، والرئيس الشيخ حسن روحاني.
وفي نيسان 2021، كسر هذا التحالف الحصار الأمريكي عن سوريا عبر ناقلات النفط الإيرانية والمواد الغذائية، كما تم تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين عبر الاستثمارات الإيرانية في البنى التحتية السورية ووسائط النقل. وسعت ايران إلى تأمين كميات من الغاز الطبيعي لسوريا.
وفي 8 أيار 2022، زار الرئيس بشار الأسد طهران، والتقى الإمام السيد علي الخامنئي، والرئيس السيد ابراهيم رئيسي. وفي 27 نيسان 2023، وقعت مذكرة تفاهم شاملة في سوريا بشأن تعزيز التعاون في مختلف القطاعات بين البلدين، تمخضت بعد جلسات عدّة للجنة الاقتصادية السورية الإيرانية المشتركة في دمشق، دامت يومين بمشاركة ممثلي الجانبين في قطاعات الاقتصاد والتجارة والإسكان والنفط والصناعة والكهرباء والنقل والتأمينات.
في عمق العلاقة ومستقبلها
وعلى الرغم من محاولات المجتمع الدولي والعربي قطف ثمار الصمود السوري، دولة وشعبًا، من بوابة إبعاد سوريا عن حليفها الإيراني، لا تزال دمشق الحليف الاستراتيجي لطهران، وتسجّل يومًا بعد يوم المزيد من الثبات والممانعة والقدرة على تغيير المعادلات في الوقت المناسب.
وتؤكد جل المعطيات، أن التحالف الإيراني السوري بمنأى عن التشوهات التي يحاول أن يرمي بها البعض هذه العلاقة في محاولات فاشلة لزرع الخلاف. فالتجربة على أرض الواقع وفي مختلف الميادين، وعلى مدى أكثر من عقد تشير إلى تماسك هذا التحالف والتمسك بالثوابت المشتركة والتوافق على الصمود في خندق واحد مع الحفاظ على مبدأ عدم التدخل في السياسات الداخلية والقرارات السيادية.
ويشكّل التحالف بين البلدين قوة يعتدّ بها في مشروع محور الممانعة وحفظ المصالح العليا الاستراتيجية للبلدين. وتسجّل التطورات الإقليمية مؤخرًا، وفي طليعتها الاتفاق السعودي الإيراني، نقطة تحول استراتيجية ستظهر تأثيراتها تباعًا في مستقبل دول المنطقة، ويبقى التحالف الثنائي الإيراني السوري نقطة توازن هذا التحوّل التي ستحدد اتجاه التأثيرات ومداها في المنظور غير البعيد.
أبعاد زيارة السيد رئيسي إلى دمشق ودلالاتها
وإذا ما تم وضع هذه الزيارة في السياق الإقليمي، بما ما يرتبط بسوريا، فهي تأتي في خضم الانفتاح العربي المتزايد على سوريا، وبعد الزيارات المتبادلة لوزراء خارجية سوريا والسعودية، وأيضاً في ظر سعي تركي للانفتاح على الحكومة السورية، وطي صفحة الحرب، التي انهاها الجيش السوري وحلفاؤه، ببسط سيطرته على معظم الأراضي.
وبالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فزيارة الرئيس الإيراني، تأتي بعد الاتفاق الإيراني السعودي على إعادة استئناف العلاقات بينهما، والسعي لخفض التصعيد في مختلف الساحات، وبعد فشل الحرب التي شنها المحور الأمريكي على إيران، وثبات الجمهورية الإسلامية على موقفها فيما يخص المفاوضات النووية.
وما يعط هذه الزيارة أبعاداً إضافية، فهذه الزيارة، تأتي في حين تسعى الصين إلى تعزيز لحضورها في المنطقة وانفتاحها المتصاعد على غرب آسيا والقضايا الحيوية فيها، كما تاتي قبيل الانتخابات التركية، والتي لن تنحصر آثارها على المستوى الداخلي التركي، بل إن نتائج هذه الانتخابات ستطال العديد من متغيرات المنطقة.
ولعل البعد الأهم، هو تزايد التنسيق بين أطراف محور المقاومة في موضوع مواجهة الكيان المؤقت، وتعزيز قواعد الاشتباك ضمن مسار وحدة الساحات، وهذا ما تبلور بشكل كبير، في رمضان الماضي، بمقابل تضعضع العلاقات الأمريكية مع مختلف دول المنطقة عمومًا، ومع السعودية بشكل خاص، وسط انكفاء أمريكي متزايد، وتوجيه اهتمامه لمناطق أخرى في العالم.
فهذه الزيارة، تحمل بعد إقليمي لجهة الرسائل إلى مختلف الأطراف الإقليمية من أن منطق الحوار وتعزيز العلاقات بين دول المنطقة هو الأساس، هذا ما تنادي به الجمهورية الإسلامية، كما توجه رسالة إلى الأمريكي، بأن مساعي تثبيت محور المقاومة والتشبيك ما بين أطرافه في مسار التطور، خصوصا على المستوى السياسي والاقتصادي والانمائي، بهدف احتواء الحصار الاقتصادي.
المصدر: موقع المنار