شدد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الذكرى الـ73 للاستقلال، على ان الاستقلال ليس مشهدا احتفاليا سنويا فحسب، ” بل هو انتساب الى شعب يتشارك الحياة مع بعضه البعض، على ارض اعطتنا هوية يجب ان نحافظ عليها، لا ان نتعامل معها كسلعة تجارية نعرضها للبيع في الاسواق الخارجية، فإن بعناها فقدنا الهوية.”
وتوجه الرئيس عون الى اللبنانيين بالقول: “ان آمالكم المعقودة على هذا العهد كبيرة بحجم تضحياتكم ومعاناتكم وانتظاركم، وكما بدأنا هذه الطريق معا سنكملها معا، فجهزوا سواعدكم لان اوان بناء الوطن قد حان، وورشة البناء تحتاج الى الجميع، وخيرها سيعم الجميع.”
واضاف: “اصبح لزاما علينا ان نحصن الاستقلال وان نعيد له قوته، ما يعني الامتناع عن اللجوء الى الخارج لاستجداء القرارات الضاغطة على الوطن، بغية الحصول على منفعة خاصة على حساب المصلحة العامة، اياً تكن هذه المنفعة.”
واذ اعتبر الرئيس عون “ان تعزيز الوحدة الوطنية هو ضرورة قصوى واولوية لانه يحصّن لبنان ويؤمّن استقراره”، شدد على وجوب ايلاء المواطنين في المناطق الحدودية من الشمال الى الجنوب، اهتماماً خاصاً لتنمية بلدانهم وقراهم.”فالمجتمع العائش في العوز والحاجة معرّض للتجارب القاسية وما ينتج عنها من خلل امني واضطراب اجتماعي، فالوطن لا يحيا فقط بمدنه وضواحيه المكتظة، بل بانتشار سكاني متوازن على مختلف اراضيه.”
ولفت رئيس الجمهورية الى ان المؤسسات الوطنية عانت ولا تزال من وهنٍ تضاعف بسبب الخلل في الممارسة السياسية والدستورية، ” ولا يمكن ان تنهض من جديد ما لم يتم تحديثها وتغيير اساليب العمل وقواعده.” وقال “ان الامور لن تستقيم ما لم نحرر العنصر البشري من ثقافة الفساد، وان مكافحة هذا الفساد تكون بالتربية من خلال تنمية سلم القيم، وبالقانون من خلال التشريع الملائم.”
واشاد رئيس الجمهورية بالجيش اللبناني، الذي ورغم كل ما جرى ويجري حول لبنان، بقي مؤمنا برسولية وشمولية قسمه، فحاز على ثقة المواطنين وكان لهم مصدر امن وطمأنينة وضمانة توحيد وسيادة، ” وهو يستطيع ان يقوم على الحدود بما يقوم به في الداخل اذا ما تعززت قدراته التقنية وتدرب على اساليب ملائمة لانواع القتال المحتملة التي سيواجهها في المستقبل.”
مواقف الرئيس عون حددها في كلمة الاستقلال التي توجه بها الى اللبنانيين عند الثامنة من مساء اليوم، لمناسبة الذكرى الثالثة والسبعين لاستقلال لبنان، وفي ما يلي نصها:
“ايتها اللبنانيات،
ايها اللبنانيون،
نحتفل غدا بعيد استقلالنا الثالث والسبعين، وللعيد نكهة خاصة هذا العام بعد أن أثمر نضالنا، وأزهرت دماء شهدائنا، والعهد الذي قطعناه لهم صار على طريق الإنجاز. فالاستقلال إن لم يكن عيد الشعب المطمئن الى أمنه وغده، ومهرجاناً للسيادة الوطنية لا يعود عيدا، بل يصبح ذكرى مؤلمة وغصة موجعة. فلتكن إرادتنا وعزيمتنا جميعا أن نحافظ على هذا العيد عيداً، وأن نمنع تحولّه مجدداً الى ذكرى، ويقيني أننا قادرون.
منذ أعوام، يعيش لبنان وسط منطقة ضربتها زلازل حروب مدمرة، كانت في بداياتها حركات مطلبية تحمل شعارات مغرية وواعدة بتطوير الأنظمة لجعلها اكثر ديمقراطية وعدالة، ولكنها سرعان ما تحولّت الى أعمال عنفية واندلعت الاشتباكات المسلّحة بين القوى المتناحرة، فوفّرت للقوى الخارجية ذرائع التدخل والإمساك بمصير الشعوب المتصارعة.
إن التقدير المتناقض من قبل اللبنانيين للأخطار المهددة للوطن وحجمها ونوعها وتأثيرها على المجتمع والنتائج المترتبة عليها، خلق ردود فعل مختلفة،وأنتج مواقف حادة متضاربة تركت آثاراً سلبية على العلاقات بين الأطراف اللبنانية. ولما كان لبنان يتفاعل أحياناً وينفعل أحياناًأخرى مع قضايا الشرق العربي، كاد احتدام الأجواء في المنطقة يصدّع الوحدة الوطنية، وصار اللبنانيون يشعرون أن استقرارهم مهدد خصوصا مع محدودية قدرات القوات المسلحة في مواجهة تلك الأخطار الداهمة. لذلك،وفي هذا الوضع، يصبح تعزيز الوحدة الوطنية ضرورة قصوى وأولوية، لأنه يحصّن لبنان ويؤمّن استقراره ويقيه من تداعيات ما يحصل حوله، وهذه مسؤولية الجميع، مسؤولين ومواطنين.
أيها اللبنانيون،
أنتم قلقون على استقراركم، ولكنكم أيضاً قلقون على استقلالكم، إذ تشعرون أنه مهدد على الدوام، وغير مكتمل، بسبب التدخلات الخارجية التي لطالما كانت تواجه القرارات الوطنية المتعلّقة بأبسط الحقوق في اختيار مسؤوليكم، وممارسة الأصول الديمقراطية، وحتى في الدفاع عن أنفسكم. فأصبح لزاماً علينا ان نحصّن الاستقلال وأن نعيد له قوته، ما يعني الامتناع عن اللجوء إلى الخارج لاستجداء القرارات الضاغطة على الوطن بغية الحصول على منفعةٍ خاصة على حساب المصلحة العامة،أيّاً تكن هذه المنفعة.
ليس الاستقلال مشهداً احتفالياً يقام في كل عام وحسب،إنما هو أيضاً نبض قلوب تخفق مع خفقان العلم. هو انتساب الى شعب يتشارك الحياة مع بعضه البعض، ومتضامن في السراء والضراء على أرضٍأعطتنا هوية يجب أن نحافظ عليها. لا أن نتعامل معها كسلعةٍ تجارية نعرضها للبيع في الاسواق الخارجية؛ فإن بعناها فقدنا الهوية. والشعب بلا ارض هو لاجئ، والأرض بلا شعب هي مشاع. أرضكم هويتكم، وهي مسؤوليتكم أنتم،فحافظوا عليها.
ارض وشعب، هذا هو الوطن الذي أقسمنا يمين المحافظة عليه واحترام دستوره وقوانينه، والدفاع عن أرضه واستقلاله، وحماية شعبه وتأمين عيشه الكريم؛ فمن أجل هذه المهمات الأساسية وجدت المؤسسات التي تشكّل الدولة الراعية لشؤون الوطن والمواطنين.
لقد عانت مؤسساتنا ولمّا تزل، من وهنٍ تضاعَف بسبب الخلل في الممارسة السياسية والدستورية. وعلى الرغم من كل المعوقات، تمكّنا بعد طول معاناة، من نسج وفاقشكّل بدايةً لحقبةٍ جديدة انتجت عودةً إلى مؤسسات الدولة. ولكن، لا يمكن لهذه المؤسسات بعد الآن ان تنهض من جديد، ما لم يتم تحديثها، وتغيير أساليب العمل وقواعده.
أيها اللبنانيون،
مهما اعتمدنا من تغيير، فلن تستقيم الامور ما لم نحرر العنصر البشري من ثقافة الفساد. وهذا ما يجب ان يتجلّى أولاً في الصفات الخلقية للأشخاص في أعلى مستويات المسؤولية، إذ عليهم أن يكونوا القدوة.
ويحضرني هنا موقفٌ لرئيس القضاة في إحدى الدول الكبرى،عندما أراد اختيار قاضٍ يكمل به عديد محكمته، استدعى أحد المحامين الشباب، وسأله عما إذا كان راغباً بالانضمام إلى المحكمة. ارتبك المحامي وحاول الاعتذار، لأنه حديثٌ في ممارسة المهنة وقليل الخبرة. فأجابه القاضي “نعرف أنك شريف ومستقيم وتعمل جاهداً، وإذا كنت ملماً ببعض القوانين فهذا ممكن أن يساعدك”.
نعم، الصفات الأخلاقية تأتي اولاً، ثم العمل الجاد والدؤوب الذي يراكم المعرفة. وبهذه القيم نستطيع أن نطهّر النفوس من ثقافة الفساد، ونعمّر الوطن، ونرتقي بشعبنا الى أفضل المستويات؛فمفاعيل الفساد فتاكة، وقد تذهب من سرقة أموال الناس الى هدر المال العام حتى إفلاس البلد، ومن خيانة وطن حتى بيعه بالمزاد.. ورب سائلٍ لماذا كل هذا الفساد المستشري؟ وهل الفساد ضريبة مفروضة على مجتمعنا ووطننا فقط؟ بالطبع لا، فالفساد جزء من الطبيعة البشرية، ولكنه يكافَح بالتربية من خلال تنمية سلم القيم، وبالقانون من خلال التشريع الملائم.
أيها اللبنانيون،
لنا إخوة مواطنون يقطنون في المناطق الحدودية، من الشمال إلى الجنوب، ويشكّلون الدرع الأول لحماية لبنان. علينا أن نوليهم اهتماماً خاصاً، لتنمية بلداتهم وقراهم؛ فنطور أريافنا، ونعزّز ارتباط سكانها بالدولة، مما يشدّ أيضاً أواصر الوحدة الوطنية، ويحدّ من هجرة الأرض.إن المجتمع العائش في العوز والحاجة معرض للتجارب القاسية وما ينتج عنها من خلل امني واضطراب اجتماعي. والوطن لا يحيا فقط بمدنه وضواحيه المكتظة، بل بانتشار سكاني متوازن على مختلف أراضيه.
أيها اللبنانيون،
على الرغم مما جرىويجري حول لبنان من مصالح متصادمة وانقسامات عميقة، وفي الداخل من تجاذبات تهدّد بنية الكيان والوحدة الوطنية، بقي جيشنا مؤمناً برسولية دوره وشمولية قسمه. فكان القوة التي تجلّت نموذج وحدةٍ وتماسك شعب. حافظ على الاستقرار، فاستحق ثقة المواطنين، ورأوا فيه مصدر أمن وطمأنينة، وضمانة توحيد وسيادة.
عندما تهدّد الأخطار الوطن، يبقى الجيش صمام أمانه، والنواة الصلبة لوحدته الوطنية، فهو من كل أرضه ولكل أرضه، وهو من كل شعبه ولكل شعبه، ولا يستطيع إلا أن يكون كذلك، لأنه متّحد بشعبه، قدراً ومصيراً ودماً.
وما يقوم به جيشنا في الداخل يستطيع أيضاً أن يقوم به على الحدود، إذا ما تعزّزت قدراته التقنية، وتدرّب على أساليب ملائمة لأنواع القتال المحتملة، التي سيواجهها في المستقبل. وعلى الدولة تترتب مسؤولية إعداد الجيش رجالاً وتجهيزاً، فالأوطان لا تحمى إلا بأبنائها.
أيها الجنود،
ويبقى الاستقلال الأمانة الكبرى في أعناقكم، هو قسمٌ تعهّدتم فيه الذود عن الوطن، والبذل في سبيله، حتى الفداء، فلا تترددوا أبداً في إطلاق صرختكم: لبيك لبنان.
أيها اللبنانيون:
لطالما ناديتكم بشعب لبنان العظيم، وذلك لأنني مؤمن بعظمةِ شعبٍ يخرج من بين أنقاض منزله المهدم، ينفض التراب عن وجهه، يشمر عن زنوده، ويباشر رصف الحجارة من جديد. واليوم، حجارة الوطن تحتاج الى الرصف، وإني لعلى ثقة بأن سواعدكم، التي ما بخلت بجهد في الأزمنة الصعبة، لن يتسلل اليها الآن تعب أو وهن.
آمالكم المعقودة على هذا العهد كبيرة، بحجم تضحياتكم ومعاناتكم وانتظاركم. وكما بدأنا هذه الطريق معا، سنكملها معا؛ فجهزوا سواعدكم لأن آوان بناء الوطن قد حان، وورشة البناء تحتاج الى الجميع، وخيرها سيعمّ الجميع.
عشتم وعاش لبنان”.