نص الخطبة
نبارك لكم مجددا ذكرى ولادة بقية الله الاعظم الامام الحجة المنتظر(ع) حيث لا زلنا نعيش أجواء الخامس عشر من شهر شعبان المعظم وهذه الذكرى العطرة والعظيمة.
وننوه مجددا ايضا بان الاسبوع الاخير من شهر شعبان قد تم اعتماده منذ سنوات اسبوعا للمسجد، لإعمار المسجد وإحيائه وتفعيل دوره في حياتنا ولدى أبناء الأمة، ولذلك سأتحدث في هذه الخطبة وفي الخطبة القادمة إن شاء الله عن هذه المناسبة وما يرتبط بالمساجد ودورها وأهمية اعمارها وإحيائها .
يقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ الجن: 18.
ما نستوحيه من هذا الآية وغيرها من الآيات والنصوص هو: ان المساجد لله، وهي بيوت الله التي تستوعب وتحتضن الجميع، هي لكل المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم، وليست للمذاهب والاحزاب، ليست لفئة معينة او شريحة خاصة، ليست او لهذه الجماعة او تلك ولا لهذه الجهة او تلك .. هي لله، وانتماؤها لله يلغي كل انتماء آخر لها ، فلا يستطيع احد سواء كان مذهبا او جهة اوجماعة او حزبا او شخصا ان ينسب المساجد اليه ويقول: هذا مسجد فلان او الجهة الفلانية او الحزب الفلاني او المذهب الفلاني، هي لله ولجميع عباد الله المؤمنين به الذين يعبدونه وحده ويسجدون له وحده، فلا يصح ان يحتكرها احد ولا يصح ان نصنفها على اساس مذهبي او حزبي او عائلي، بان تكون هناك مساجد للسنة واخرى للشيعة او مساجد خاصة بهذا الحزب واخرى لحزب آخر، لا يصح احتكار المساجد من اي جهة كانت ، لا يصح ان يحتكرها مذهب او ان تحتكرها فئة او جماعة او حزب او عائلة او عشيرة أو اي اتجاه معين.
إن معنى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ أن الاجواء التي ينبغي ان تسود في المساجد هي الاجواء الالهية الربانية والروحية، اجواء العبادة لله وحده والتوجه نحو الله وحده ، لا الأجواء المذهبية والفئوية والحزبية ولا الأهواء والعصبيات العشائرية والقبلية والعائلية ( فلا تدعوا مع الله احدا).
المساجد هويتها وانتماؤها لله، وهي بيوت الله في الارض، يزوروها الجميع ويدخلها الجميع بدون حرج او قلق او خوف، كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): “عليكم باتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه، وكتب من زواره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء”.
وعن الامام الباقر(ع)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله تبارك وتعالى: ألا إن بيوتي في الأرض المساجد، تضئ لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض، ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته، ألا طوبى لعبد توضأ في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إن على المزور كرامة الزائر، ألا بشر المشائين في الظلمات الى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة.
واذا كانت المساجد بيوت الله فهي للسنة والشيعة ولكل من يؤمن بالله ويعبده وحده الى اي مذهب او جهة انتمى، كل الهويات والانتماءات والمسميات الاخرى تسقط امام الهوية الجامعة التي تجعل المساجد مفتوحة امام عباد الله .
هذه المسميات والتصنيفات صنعتها السياسة والعصبيات المذهبية والحزبية وأرساها وعزز من وجودها واقع الأمة الممزق والمشرذم، ولو ان ابناء الأمة والمذاهب التزموا عمليا بقوله تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ لما تحرج او خاف السني من دخول مسجد شيعي، او الشيعي من دخول مسجد سني، ولما امتنع السني من بناء مسجد في الوسط الشيعي او الشيعي من بناء مسجد في الوسط السني، بل اكثر من ذلك لو ان المسلمين امتلكوا ثقافة (ان المساجد لله) وان المساجد ذات هوية الهية ربانية خالصة لا تداخلها هويات اخرى ولا انتماءات أخرى، لما احتاج السنة ان يبنوا لهم مسجدا في نفس المنطقة التي يوجد فيها مسجد للشيعة ، ولما احتاج الشيعة ان يبنوا لهم مسجدا في نفس المنطقة التي يوجد فيها مسجد للسنة .
لقد اراد الله للمساجد التي هي لله ان تكون المكان الجامع الذي يجتمع فيه المسلمون سنة وشيعة وذوي اتجاهات وانتماءات متنوعة، ليعبدوا الله فيه ويتعارفوا ويتواصلوا ويتوحدوا ويتراصوا ويتآلفوا ويتآخوا ويتعاونوا .
المساجد هي منطلق للوحدة الحقيقية بين المسلمين وهي المكان الذي يستوعب الجميع ويحتضن الجميع ، ولذلك فقد سمى المسجد بالجامع لأنه يجمع المسلمين جميعا، فالمسجد فوق الانتماءات المذهبية والقبلية والطبقية والفئوية، ولا يصح أبداً أن تصنّف المساجد حسب الانتماءات، فهي لله وحده، لا يملكها أحد ولا يحتكرها أحد ولا يصح ان تخصص لفئة معينة او ان يتم وقفها شرعا لشريحة خاصة .
ولذلك نجد ان الفقهاء لم يجوزوا التخصيص في وقف المسجد، بحيث يكون وقفا مخصصاً لطائفة، أو لفئة او لشريحة معينة.
المساجد لله والجميع بالنسبة إلى الله سبحانه على حدّ سواء، وكلهم خلقه وعبيده وقد اشترك الكل في الاستفادة من المسجد بنسبة واحدة وبوجه واحد.
ولذلك فإن الفقهاء نصوا على استحباب الصلاة في أي مسجد بغض النظر عمن بناه سواء بناه السنة ام الشيعة وسواء كان محسوبا على هذه الجهة او تلك الجهة، وكذلك عندما نراجع أحكام المساجد، كحرمة تنجيسها أو حرمة دخول الجنب والحائض إليها، نجد ان هذه الاحكام تنطبق على جميع المساجد دون فرق بين مسجد بناه السنة اومسجد بناه الشيعة، او مسجد بناه هذا الحزب او ذاك.
ولذلك ورد في كتاب وسائل الشيعة للحر العالملي في أحكام المساجد “باب استحباب الصلاة في المسجد وإتيانه حتى مساجد العامة” وباب “عدم كراهة الصلاة في مساجد العامة أداءً ولا قضاء، فرضا ولا نفلا” .
احد أصحاب الامام الصادق(ع) يقول: قلت لأبي عبد الله: إني لأكره الصلاة في مساجدهم فقال: لا تكره إلى أن قال: – فأدِ فيها الفريضة والنوافل واقض ما فاتك.
وهذا ما اكد عليه ائمة اهل البيت(ع) في كل احاديثهم، وهكذا كانت سيرتهم العملية في حياتهم.
وطبعا عندما نقول ان المساجد هي منطلق للوحدة بين المسلمين وانها المكان الذي يجمع كل المسلمين المصلين من كل المذاهب وليس وقفا على فئة خاصة، فان هذا لا يعني ان يتخلى المسلمون عن مذاهبهم وانتماءاتهم، فقد تتنوع وتتعدد المذاهب والآراء والأفكار في الأمة، وتختلف فيها التوجهات والانتماءات والمواقف، لكن لا ينبغي للاختلاف في المذاهب والانتماءات والمواقف أن يفقد الأمة الوحدة والانسجام والاجتماع في بيوت الله للعبادة والتقارب والتعاون فيما يرضي الله عزوجل وينفع الامة.
مع الاسف لم يعد المسجد في واقعنا هو العنوان الجامع للامة على اختلاف انتماءاتها ، بل أصبح لكل مذهب مساجده الخاصة ، ولكل عائلة او حزب او جماعة مساجدها الخاصة، لم تعد المساجد واحدة للجميع، وهذا أكبر دليل على أن المساجد في واقعنا الفعلي والميداني ليست لله بالمعنى الذي اراده الله، بل لكل فئة مساجد خاصة يخاف الآخرون ان يدخلوها ويصلوا فيها.
اصبحنا نرتاح نفسيا للصلاة في هذا المسجد أكثر من ذاك، واصبحنا نؤخر الصلاة كي نصلي في هذا المسجد دون ذاك، لان هذا المسجد محسوب لنا وذاك محسوب لغيرنا، اصبحنا نصلي باطمئنان وراحة بال هنا بينما نصلي بقلق هناك، اصبح أحدنا يشعر بالغربة في بعض المساجد مع انه هو في بيت الله الذي يقول الله عنه ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾!!
هذه كلها مظاهر لحقيقة مرة وهي أن حال المساجد في واقعنا الاسلامي ليست كما يريدها الله في انتسابها إليه وحده .
هذه التصنيفات والهويات المختلفة للمساجد أوجد موقفا نفسيا في بعض المناطق، لكنها في مناطق أخرى دفعت إلى ما هو أكثر وأخطر من الموضوع النفسي، دفعت بالبعض الى الاعتداء على بعض المساجد والقيام بتفجيرها وقتل من فيها .
التفجيرات الإرهابية التي تضرب بعض المساجد في باكستان وافغانستان والعراق وغيرها انما يقوم بها الارهابيون التكفيريون لمجرد انها محسوبة للشيعة ويرتادها مسلمون شيعة، وقد بات الاستهداف للمساجد مقبولا في تلك البيئة وفي تلك المناطق، مع ان الاعتداء عليها هو اعتداء على الله ، لانها بيوت الله التي يعبد الله فيها ويسجد لله فيها .
والأسوء من ذلك هو أن الإدانات والمواقف المستنكرة من بقية العالم الإسلامي ضد هذا النوع من التفجيرات الإرهابية خجولة ولا ترتقي الى المستوى المطلوب.
هذا الواقع مع الاسف موجود اليوم، وهو واقع مخالف لما اراده الله، ومخالف لتعاليم الاسلام التي ارادت احترام المساجد وتعظيمها لان تعظيمها هو تعظيم لله.
اراد الاسلام ان تكون المساجد مكانا وعنوانا للوحدة والتآلف والتآخي لا للتفرقة والتمايز، اراد منا ان نكسر الحواجز النفسية تجاه بعض المساجد لتكون المساجد كلها لله.
في اسبوع المسجد نستحضر هذه المعاني ونؤكد على هذا الدور الوحدوي للمساجد، وعلى عدم التمييز بين المساجد، وعلى اهمية احيائها كلها ، والحضور فيها والصلاة فيها كلها، والانطلاق منها لتحمل مسؤوليات الحياة .
اليوم مع تفاقم الازمات الاقتصادية والسياسية والقضائية بات اللبنانيون احوج ما يكون الى الحوار والتفاهم والإتفاق على رئيس للجمهورية، لكن هناك دولا اقليمية ودولية وفي مقدمها السعودية تمنع اللبنانيين من الحوار والتلاقي وتضع الفيتوات وتعقد بتدخلها في شؤوننا الداخلية مسارات الحل.
نحن نقبل ان تساعد الدول الخارجية اللبنانيين على التواصل والتلاقي وحث الاطراف على الحوار وتقريب وجهات النظر فيما بينها، ولكننا نرفض ان تضع فيتوات على اي مرشح للرئاسة او ان تفرض رئيسا على لبنان .
الدول التي تمنع التلاقي والتوافق بين اللبنانيين وتضع الفيتوات إنما تدفع بالبلد نحو الفوضى والإنهيار الشامل .
واللبنانيون اليوم أمام امتحان صعب وعليهم أن يختاروا اما الحوار والتوافق الذي يضع البلد على مسار الحل، واما الانصياع للخارج والتشبث بخيارات التحدي والمواجهة الذي يضع البلد على مسار الفوضى والفتنة.
نحن لن ننصاع لارادة الخارج ولا تعنينا الفيتوات الخارجية ولن نستسلم للفوضى ولن نسمح بأخذ البلد نحو الفتنة .