بسم الله الرحمن الرحيم،
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.
أبارك عيد المبعث السعيد لكم، أيها الحضور الكرام الحاضرون هنا[1]، وللشعب الإيراني بأجمعه، ولكلّ مسلمي العالم، وللمطالبين بالحقّ في أرجائه الذين لو بلغ نداء البعثة مسامع قلوبهم، لانجذبوا إليه حتماً.
يتحصّل بالحسبة التي يجريها الإنسان أن بعثة الرسول الأعظم (ص) هي أعظم هدية منحها الله المتعالي للبشرية جمعاء. بالطبع إن الهدايا الإلهية [كثيرة]؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (إبراهيم، 34)، ولكن لا توجد نعمة ولا هدية بعظمة بعثة النبي الأكرم (ص) وزنتها، والسبب أن البعثة تحمل كنوزاً للبشر، وهذه الكنوز لا تنضب. قد يستفيد الإنسان من هذه الكنوز، وربما لا يستفيد، ولكن هذه الكنوز العظيمة التي جلبتها البعثة إلى البشرية هي في تصرفه. يمكن لهذه الكنوز أن تضمن سعادة البشر في حياتهم: هذه الحياة الدنيا، إلى ما قبل الآخرة. يستطيع الإنسان الوصول إلى هذا الأمر بالحسبة. حسناً، ما هذه الكنوز؟
في الدرجة الأولى: التوحيد. إنه ذاك الكنز الذي لا يصل أي شيء إلى زنته وأهميته، لأن العبودية لله تُحرر البشر من الاسترقاق والعبودية للآخرين. هذه هي مشكلة البشر. مشكلتهم الأسْرُ في براثن الآخرين. لقد كان الأمر على هذا النحو على مر التاريخ، وهو يزول بالعبودية لله. إذا كان الإنسان عبداً لله بالمعنى الحقيقي للكلمة، ويتمسك بالتوحيد بالمعنى الحقيقي، وهو نفي العبودية لغير الله، فإنه يتخلص من عبودية الآخرين، ومن هذه الأمور التي رأيتموها وسمعتموها في التاريخ: القتل والظلم والمجازر والحروب وما إلى ذلك. إنها إحدى هدايا البعثة.
التزكية هدية أخرى: {وَيُزَكِّيهِمْ} (آل عمران، 165)، أيْ في الواقع التزكية هي دواء يخلّص البشر من الفساد. التزكية تزيل أنواع الفساد الأخلاقي كلها من المجتمع البشري ووجود البشر وقلب الإنسان وتُطهّره.
«تعليم الكتاب» من الهدايا أيضاً؛ {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} (آل عمران، 165): تعليم الكتاب. إنّ تعليم الكتاب يعني وضع الحياة تحت الهداية الإلهية. الله الذي هو مالك الأشياء كلها وخالقها وربها حدد طريقاً لحياة الإنسان حتى يسلك هذا الطريق. هذا هو تعليم الكتاب. والحكمة؛ {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران، 165)، أيْ يُدار المجتمع بالعقل والحكمة والحصافة والرشاد. لاحظوا: هذه كلها هدايا وعطايا لبعثة خاتم الأنبياء (ص). بالطبع، بعض هذه المبادئ أو كثير منها تتشابه وتتشارك مع سائر الأنبياء لكن هذا هو النوع الكامل منها.
ثمة هدية أخرى هي كنز حقاً ومن الكنوز في البعثة: تعليم الاستقامة. الاستقامة هي السر والرمز للوصول إلى الهدف. فمهما كان هدفكم، دنيوياً أو أخروياً، يمكنكم الوصول إليه بالثبات والاستقامة والمتابعة، وليس دون ذلك؛ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} (هود، 112). لقد أمرنا القرآن بهذا، والبعثة جعلت هذا الكنز في متناولنا؛ لنتعلم ونعرف ما ينبغي أن نفعل.
كنز «القسط» المنقطع النظير: العدالة دون تمييز، في مجال القضايا الاقتصادية أو البشرية والعدالة الاجتماعية عموماً. هذا أيضاً من الكنوز التي منحتنا إياها البعثة. فلتُديروا الحياة بالقسط؛ {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد، 25)، أي أن يتمكّن البشر أنفسهم من أن يديروا حياتهم بالقسط. جاء الأنبياء (ع) أساساً ليضعوا البشر على هذه الطريق ويدلّونهم عليها.
من الكنوز المهمّة جدّاً التي لا تحظى بالاهتمام – للأسف – الصلابة في مواجهة المغرضين وقطع إمكانية اختراقهم. إحدى الضربات التي تصيب المجتمعات البشرية هي التي تأتي من تغلغل الأعداء، وقد ورد هذا الأمر في آية: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (الفتح، 29). «أشدّاء» لا تعني الشدّة في العمل؛ معنى «أشدّاء» ليس الشدّة في العمل كما نعبّر بالفارسيّة، بل تعني الصلابة والمتانة ومنع إمكانيّة الاختراق. هذا ما تعنيه «أشدّاء». {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}، أي لا تسمحوا لهم باختراقكم. معنى تغلغل العدوّ هو تغلغل الأجنبي والمغرِض، إذ لا تملكون إرادة من أنفسكم، فيأتي ويستولي على مجتمعكم، كالإنسان الفاقد الوعي الذي يحقنونه بما يحلو لهم. أنتم قادرون بإرادتكم على أن تكون لديكم علاقات جيّدة ومنظّمة ومنطقيّة وعقلانيّة، وهذا هو الجيّد.
أو الرأفة والمحبّة والصفاء والألفة بين أفراد المجتمع. {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح، 29)، هذه أيضاً من تلك الكنوز نفسها، أي أن تكون الحياة في المجتمع مصحوبة بالرحمة والمروءة وأمثال هذه الأمور.
أو أن يجتنب الإنسان طغاة العالم وأشراره ولا يتماشى معهم؛ {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل، 36)، وقد جرى في القرآن تعليمنا اجتناب الطاغوت. هذه واحدة من تلك الكنوز التي يُمكن الاستفادة منها دائماً وتسيير الحياة بأسلوب صحيح.
أو التحرّر من أغلال الجهل والتعصّب والجمود والتوقّف وأمثال هذه الأمور؛ {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف، 157). هناك آلاف الكنوز الثمينة من هذا القبيل في القرآن الكريم، وهي في البعثة والإسلام، وهذا ما جاءتنا به البعثة ومنحتنا إياه.
بعضنا – نحن المسلمين – لا يعرفون هذه الكنوز أصلاً، وبعضنا ينكرون هذه الهدايا الإلهيّة العظيمة ويكفرون بها، وبعضنا يفاخرون بها لكن دون أن نعمل بها. الحال كذلك. ماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أنْ يُصاب العالم الإسلامي بالفرقة والتراجع والضعف على المستويين العلمي والعملي. هكذا تكون النتيجة. استطاع المسلمون في مرحلة ما إرساء أعظم الحضارات في عصرهم وإنتاجها بالعمل الناقص بهذه الكنوز العظيمة، لا العمل الكامل. في القرنين الثالث والرابع للهجرة، لم تكن هناك حكومة ولا قوة ولا أمة متقدمة مثل الإسلامية، مع أنّنا نعلم أنّه كان يجري العمل ناقصاً آنذاك، ومَن في السلطة لم يكونوا مناسبين وكاملين، لكنْ حتى ذلك كان مؤثراً. نستطيع بالعودة إلى هذه الكنوز المُهداة من البعثة إلينا أن نزيل نقاط ضعف العالم الإسلاميّ، سواء تلك الكنوز ذات الصّلة بالمعارف الإسلاميّة أو المرتبطة بالأحكام الإسلاميّة والأخلاق الإسلاميّة. هذه هي الحال.
النقطة الأخرى قضية فلسطين، وهي اليوم من أهم قضايانا أيضاً. وقع شعبٌ وبلد بصورة كاملة في قبضة أناس متوحشين وخبيثين وأشرار – ليسوا عاديّين- والعالم الإسلامي ينظر ويتفرّج! فالظلم يُمارس فعلاً بحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه وبيته – طبعاً أولئك الذين بقوا ولم يُطردوا – يوماً بعد يوم. يخرّبون كلّ يوم ناحية ما أمام أعين العالم الإسلامي ويبنون مستوطنة صهيونية، وهذه الحكومات الإسلامية كلها بهذه الثروات والقدرات في العالم الاسلامي واقفة تتفرج! هذا يحدث، ومرّت سنوات طويلة والظّلم يُمارس على هذا النحو بحقّ شعبٍ على مرأى من العالم كلّه. هذا الأمر وجّه ضربة إلى العالم الإسلاميّ أيضاً، فيما التزمت الحكومات والدول الإسلاميّة الصّمت أمام مثل هذا العدوان، الذي هو عدوان عليهم أنفسهم وعلى الأمّة الإسلاميّة، وفي بعض الحالات أيضاً – خاصّة خلال المدة الأخيرة – حين طبّعوا معهم أضعفوا هذه الدول أيضاً وتسبّبوا لها في مثل هذا الوضع وجعلوا العدوّ يهيمن عليها.
اليوم، إن الدول المتقدّمة في العالم والقوى العالمية تعطي نفسها حقّ التدخل في البلدان الإسلامية. يأتون ويتدخلون. أمريكا على نحو، وفرنسا على نحو آخر، وذاك على نحو… إنهم يتدخلون في البلاد الإسلامية، ويعطون لأنفسهم الحق في هذا العمل. هم عاجزون عن إدارة بلدانهم ولم يتمكنوا من حل مشكلاتهم في بلادهم، ويريدون المجيء والاستيلاء على البلدان الإسلامية وحلّ مشكلاتها وفق زعمهم! حسناً، هذا يعني ضعف العالم الإسلامي والدول الإسلامية بسبب قضية فلسطين.
لو وقفت الحكومات الإسلامية بحزم في قضية فلسطين وقاومت منذ اليوم الأول، لكان الوضع في غربي آسيا، منطقتنا، مختلفاً اليوم، ولكنّا اليوم أقوى وأكثر اتحاداً، ولكان وضعنا اليوم أفضل من نواحٍ كثيرة. منذ ذلك الحين، كان مريدو الخير يقولون ذلك، ومن جملتهم كبار علماء النجف، فقد كتب كبار علماء النجف رسائل وأدلوا بتصريحات وخطابات حول قضية فلسطين وغصبها ونحو ذلك، وكذلك بعض المتلهفين وأولئك الذين كانوا حريصين حقّاً. قال شاعر عربي:
لئن أضعتم فلسطيناً فعيشكم
طول الحياة مضاضاتٌ وآلام
لقد أصاب القول. إذا تخليتم عن فلسطين، فسوف تصابون بالآلام والمعاناة وأمثال ذلك على طول الزمان. لو بادرنا منذ اليوم الأول، [لكان وضعنا أفضل].
تتحدث الجمهوريّة الإسلاميّة اليوم علناً وصراحة عما يخالج قلوب مسلمي فلسطين المظلومين. نحن لا نجامل أحداً، ونقول الحقيقة بصوتٍ عال: إننا ندعم شعب فلسطين وندافع عنه، ونصرّح أيضاً أننا ندافع عنه، وسندافع بأيّ طريقة نقدر عليها عن شعب فلسطين. هذا ما جعل الأعداء يتمحورون ويطلقون حملة التخويف من إيران، ومن ثمّ ضمَّ أولئك الذين يتوجّب عليهم كذلك دعم فلسطين – بقدرنا على الأقل – أصواتهم أيضاً إلى أصوات الأعداء في ما يرتبط بالتخويف من إيران.
الحلّ لهذه المشكلات كلّها يكمن في العودة إلى الإسلام واتحاد الشعوب المسلمة وتعاطفها مع بعضها بعضاً والتعاون بين الحكومات الإسلاميّة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا أن يتعاونوا ويتعاطفوا صورياً بل بالمعنى الحقيقي للكلمة. أجزاء الأمة الإسلامية كلها بحاجة إلى التعاون مع بعضها بعضاً، وقد تقع المشكلات أحياناً.
انظروا الآن إلى هذا الزلزال المدمر في سوريا وتركيا. طبعاً، هذا حادث صعب، وهو مرتبط بالمسلمين جميعاً. أيْ حقاً لا بدّ أن يشعر كل شخص بالألم والمعاناة إزاء مثل هذه الأمور، غير أنّ هذا يُعدّ شيئاً صغيراً مقارنة بالقضايا السياسية مثل فلسطين وتدخلات أمريكا في دول مختلفة في المنطقة: سوريا وأماكن أخرى، لكنه في الوقت نفسه حادث مهم.
نسأل الله المتعالي أنّ يعيننا جميعاً لنكون قادرين على الاستفادة من البعثة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وجعل مبعث الرسول الأعظم (ص) عيداً للعالم الإسلامي والأمّة الإسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة. نسأل الله أن يعيننا في هذا الطريق، وأن يرفع درجات إمامنا [الخميني] الجليل الذي دلّنا إلى هذا الطريق ودفعنا فيه، وأن يحشر شهداءنا العظام مع شهداء صدر الإسلام، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: موقع الامام الخامنئي