نص الخطبة
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ).
نبارك لكم وللمسلمين جميعا ذكرى المبعث النبوي الشريف، في السابع والعشرين من رجب، هذا الحدث العظيم الذي صنع أعظم تحول في تاريخ البشرية ونقلها من مرحلة الى مرحلة اخرى من مرحلة الضلال والضياع والجهل والتخلف والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي الى مرحلة الايمان والعلم والثقافة والقيم والحضارة .
ما أود ان اتحدث عنه في هذه المناسبة العظيمة هو بيان كيف كان يتعامل النبي بصفته قائدا رساليا مع أتباعه الذين امنوا به وبرسالته وكانوا يعظّمونه ويطيعونه ويتبركون به؟
بعض الزعماء والقادة والمسؤولين والسياسيين عندما يرى التفاف الناس من حوله واحترام الجماهير له، يشعر بالزهو وبانتفاخ الشخصية وتضخم الذات، ويصبح يتعامل مع جمهوره ومؤيديه ومحبيه ومرؤوسيه بطريقة استعلائية وكأنّ المطلوب منهم أن يعبدوه ويتخذوه صنمًا، ويخضعوا له في كلّ شيء.
فهل كان النبي(ص) يتعامل مع اتباعه والعياذ بالله بهذه الطريقة ؟ ! بالتأكيد لا ، فالنبي(ص) ارفع وانبل واسمى واجل من ان يتبع مثل هذا الاسلوب في تعامله مع المؤمنين به الذين كانوا يقدرونه ويحترمونه.
لقد أرسى النبي(ص) منهجا خاصا في التعامل مع المؤمنين به واراد من كل قائد وزعيم ومسؤول ان يتعامل وفق هذا المنهج مع مرؤوسيه ومؤيديه وانصاره.
من معالم هذا المنهج:
اولا: التعامل مع المؤمنين بتواضع، بالتواضع الممزوج بالمحبة والمودة والرحمة والشفقة والحرص على المؤمنين وحياتهم وامنهم .
وقد وجه الله نبيّه(ص) في العديد من الآيات نحو هذا السلوك في التعامل مع المؤمنين، فقال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الشعراء، 215.
وتكرر مثل هذا التعبير في آية أخرى هي قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الحجر، 88.
وهذا التعبير الرائع هو كناية عن التواضع المصحوب بالمحبة والمودة والشفقة والرأفة والرحمة، فكما أنّ الطيور تخفض أجنحتها لأفراخها محبة وشفقة عليهم، وتجعلها تحت أجنحتها لتحميها وتدافع عنها، ولتحفظها من الضياع والتفرق ، فكذلك الأمر بالنسبة للنبي(ص)، أمره الله تعالى أن يخفض جناحه للمؤمنين، ويحيطهم بمحبته ورأفته ولطفه ورحمته فيكون مشفقًا عليهم، متواضعًا لهم، حريصا عليهم، يحيطهم برعايته وعنايته ، ويعمل على تربيتهم وتعليمهم وتزكية نفوسهم، ويحفظ وحدتهم ويحمي وجودهم وأمنهم ومصالحهم .
وقد كان النبي(ص) كذلك في تعامله مع أصحابه وأتباعه والناس من حوله طيلة حياته، فقد كان الانسان المتواضع الرؤوف العطوف الرحيم والمعلم والمربي والهادي والحريص على شعبه على حاضره ومستقبله ومصيره.
وهذا ما حدثنا به القرآن عن شخصيته العظيمة : فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ).
وقال (لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ).
وفي اية اخرى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )
فليس هناك من هو أرحم وأشفق من النبي (ص) باتباعه المؤمنين.
وهذه الوصايا ليست منحصرة بالنبي(ص)، بل هي عامّة لكل قائد وزعيم ومسؤول ، سواء كانت دائرة قيادته واسعة أم محدودة، فعليه أن يأخذ بهذا الأصل الأساسي في الإِدارة والقيادة الصحيحة..بان يكون الانسان المتواضع السهل الرحيم الحريص على مرؤوسيه، حريص على هدايتهم وحياتهم وراحتهم وامنهم.
تواضع المسؤول لاتباعه ورعايته لهم وحرصه عليهم واخلاصه لهم وسعيه في تحقيق مصالحهم يعمق العلاقة بينه وبينهم. أمّا تعامل المسؤول او القائد بفوقية وخشونة وقسوة مع الافراد فانه تؤدي إِلى النفور بينه وبين الأفراد وبالتالي قد يؤدى ايضا إِلى تفرق وتشتت الناس عن قائدهم.
قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام) في رسالته إِلى محمّد بن أبي بكر: “فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ ”
ثانيا: القائد الرسالي هو الذي يربط الناس بالله وبالقيم الالهية ويدعوهم إلى تعظيم الله وعبادته، وليس إلى عبادة شخصه.
فقد كان النبي(ص) يرفض كل أشكال التعظيم التي توحي بالسجود او بالعبادة لشخصه
فقد روي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله نحن نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله، ولكن اكرموا نبيّكم واعرفوا الحقّ لأهله.
وفي حديث اخر قال : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَرْفَعُونِي فَوْقَ قِدْرِي، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي عَبْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيًّا»
وهذا ما اكد عليه القران حيث يقول: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ آل عمران، 79.
فالقائد الرسالي المرتبط بالله سبحانه وتعالى، مهما امتلك من المكانة والقداسة والعظمة والعلم والمعرفة والقوة والنفوذ والامتداد والانصار والاتباع، لا يدعو الناس الى عبادة شخصه، وإنما يربط الناس بعبادة الله ويدفعهم الى تعظيم الله والالتزام بالقيم الإلهية ويسعى ليكونوا ربانيين.
وطبعا هذا لا يعني ان لا نعظم النبي( )ولا نطيعه فهو اعظم مخلوق في هذا الوجود وقد امرنا الله بطاعته وطاعته هي من طاعة الله، قال تعالى: ( اطيعوا الله واطيعوا الرسول) لكن الطاعة لا تعني العبادة بل الالتزام بما امر ونهى باعتبار ان طاعته من طاعة الله، لانه لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى.
ثالثا القائد الرسالي لا يستبد برايه ويستخف بعقول الناس، لا يجمد عقول الناس بل يثير عقولهم ويدفعهم للتفكير وطرح أرائهم وافكارهم، فقد كان النبي(ص) يستثير عقول اصحابه ويشجعهم على التفكير وطرح آرائهم من خلال حرصه على استشارتهم في مختلف القضايا، حتى قال أحد أصحابه: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ .
وكان(ص)كلما وقعت حادثة هامة وحساسة يجمع الناس ويطلب رأيهم ويقول (أشيروا عليِّ).
وهذا يعني ان الاسلام لا يطلب منك أن تجمّد فكرك وعقلك أمام أيّ قائد او زعيم أو مسؤول مهما علا شانه، فليس هناك من قائد اعظم شأنا من النبي(ص) ومع ذلك فقد كان يثير عقولهم ويدفعهم للتفكير ويأمرهم بطرح أفكارهم.
بعض الناس حينما يثقون بقائد لمًا يملكه من عقل وفهم ووعي وكفاءة فإنهم قد ينبهرون به وبما يقدّم من أفكار واراء وطروحات ومواقف إلى درجة انهم يجمدون عقولهم، فيستغلّ بعض القادة المنحرفين هذه الحالة ليستبد بارائه ، كما يحكي القرآن الكريم عن فرعون ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر: 29.
الطغاة والمستكبرون يستبدون بآرائهم ويوحون بأنّ عقولهم هي الأكمل وأنّ عقول غيرهم ناقصة، اما القادة الرساليون فيثيرون في الناس دفائن عقولهم، ويدفعوهم للتفكير.
ومع أنّ النبي معصوم ومسدّد من قبل الله وليس بحاجة الى عقل احد او استشارة احد الا ان الله يأمره أن يستشير اصحابه، ويطلب منهم أن يفكروا ويتأملوا: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) والمشاورة تعني دفعهم لاستخدام عقولهم، وحثهم على التفكير وإبداء الرأي، وفي القرآن آيات كثيرة تدعو الى الوعي والفهم والتفكير واستخدام العقل .
رابعا: القائد الرسالي لا يميز نفسه بشيء عن سائر الناس، ولا يجمع لنفسه المكاسب والامتيازات على حساب اتباعه، هكذا كان النبي(ص)، فقد كان يواسي الناس في مختلف شؤونهم وحياتهم ولا يتميز عنهم، كان يعيش بين الناس كواحد منهم، فلم يتميز عن سائر الشعب لا في المظهر ولا في المجلس، كان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم يكن له مكان خاص يتميز به عن الجالسين، فكان الغريب الذي لا يعرفه اذا دخل مجلسه لا يميزه من بين الناس ويسأل عنه كي يعرفه.
كان يقوم احترامًا لبعض القادمين عليه، لكنه كان يكره قيام الناس له، لشدّة تواضعه.
فعن الامام الصادق قال: «إنّ رسول الله خرج ذات يوم من بعض حجراته إذا قوم من أصحابه مجتمعون، فلما بصروا برسول الله قاموا. فقال لهم: اقعدوا ولا تفعلوا كما يفعل الأعاجم تعظيمًا».
وكان النبي يشارك اصحابه الأعمال المختلفة ، فلم يكن يجلس جانبا وهم يعملون، لم يكن يدعهم يخدمونه وكأنهم خدم له ، بل كان يكرم ويحترم من يكون معه، ويشاركهم العمل والخدمة، كعمله معهم في تهيئة الطعام في بعض اسفاره، وكمشاركته لهم في بناء مسجد المدينة، لما أمرهم ببناء المسجد، ومشاركته لهم في العمل بحفر الخندق لحماية المدينة من هجوم تحالف المشركين والاحزاب.
فقد روي عن النبي أنّه «كان فِي بعض أَسْفَاره، فَأمر بإصلاح شاة فقال رجل ، يَا رَسُول الله: عَليّ ذَبحهَا، وَقَالَ آخر:علي سلخها وقال آخر : علي طبخها فقال النبي: وَعليّ جمع الْحَطب. فَقَالُوا يَا رَسُول الله، نَحن نكفيك. فَقَالَ: قد علمت أَنكُمْ تكفوني، وَلَكِنِّي أكره أَن أتميّز عَلَيْكُم؛ فَإِنّ الله يكره من عَبده أَن يرَاهُ متميزًا بَين أَصْحَابه، وَقَامَ وَجمع الْحَطب».
وفي بناء المسجد لما رآه اُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ يَحمِلُ حَجَرًا عَلى بَطنِهِ، قال له: يا رَسولَ الله، أعطِني أحمِلهُ عَنكَ، قالَ: “لا، اِذهَب فَاحمِل غَيرَهُ”
وفي حفر الخندق كان النبي(ص) يحفر بالمعول وعندما قال له أصحابه: يا رسول الله، نحن نكفيك.قال: «أريد مشاركتكم في الأجر».
هذا جانب من مدرسة رسول الله(ص) التي يجب ان يستلهم منها الزعماء والقادة والمسؤولون وعامة الناس المبادىء والقيم والأخلاق، فيتعاملوا مع الناس بمثل هذا السلوك الانساني الرفيع.
ائمتنا وعلماؤنا ومراجعنا وقادتنا وشهداؤنا تعاملوا مع الناس بمثل هذه الاخلاق والقيم .
قادتنا الشهداء الذين نحي ذكراهم هذه الايام كانوا في قمة التواضع والصدق والاخلاص للناس عاشوا بين الناس وهملوا همومهم والامهم ومعاناتهم، وبذلوا دماءهم من اجل ان يبقى لنا وطن يعيش فيه الناس بحرية وكرامة.
اليوم ما يشغل بال اللبنانيين هو الهم الاقتصادي والمعيشي الذي يزداد يوما بعد يوم مع الارتفاع المتفلت لسعر الدولار وما لحقه من ارتفاع كل الأسعار، وهذا الامر ليس بريئا بل قد يكون مقدمة لتحريك الشارع واثارة الفوضى في لبنان .
اذا كان المقصود من الفوضى التي يخططون لها زيادة الضغط على اللبنانيين لفرض اسم لرئاسة الجمهورية نقول لهم لو اتفق كل العالم على اسم رئيس للجمهورية ولم يتفق اللبنانيون عليه، لا يمكن أن يفرضوه علينا ، لأن الحلول تبدأ من الداخل، ولا أحد في الخارج يمكنه ان يفرض على اللبنانين ما لا يريدونه .
ولذلك الحل الوحيد في الملف الرئاسي هو بالتفاهم الداخلي واستمرار الجهد ليكون للبنان رئيس جمهورية صنع في لبنان وليس في الخارج.
اليوم اللبنانيون معنيون اكثر من اي زمن مضى بالبحث عن الحلول والقيام بخطوات جريئة وشجاعة لانقاذ البلد والتحرر من عقدة الخوف من الامريكي وتقديم مصلحة البلد على المصالح الاخرى .
سياسة الحصار والافقار والتجويع التي تنتهجها الادارة الامريكية في لبنان لن تمر بدون عواقب. وكلام سماحة الامين العام بالامس واضح وهو رسالة لكل من تسول له نفسه في الداخل والخارج التلاعب بمصير البلد وأخذه نحو الفوضى.
والمعادلة التي ارساها هي من اجل حماية لبنان كل لبنان وردع الجهات الدولية وغير الدولية التي تحاول تجويع اللبنانيين والعبث بامن البلد واستقراره.