لم تكد تنتهي الحرب العالمية الثانية عام 1945، حتى بدأت الدول الغربية المنتصرة، بوضع نظام دولي جديد.. ولما كانت فرنسا منهكة في تلك الحرب، خصوصاً بعد سقوط باريس على يد الجيش الألماني، خلت الساحة للولايات المتحدة وبريطانيا والإتحاد السوفياتي.
غير أن الصراع بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي الغربي، أفضى إلى إقصاء الإتحاد السوفياتي عن مجريات القرارات الدولية، فتصدت الولايات المتحدة -الأقوى في العالم في تلك الفترة، التي دخلت الحرب العالمية الثانية في نهاياتها، وقطفت ثمار الإنتصار، واستحوذت على حصة الأسد، فكان ربط اقتصاديات العالم، والمواد الأولية في مرحلة لاحقة بالدولار الأمريكي، وكانت سطوة واشنطن على المؤسسات السياسية الدولية، كالأمم المتحدة وغيرها من المنظمات، ناهيك عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وبالتزامن مع السيطرة المالية، وزعت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية في العالم، ودخلت بقواتها إلى الدول المهزومة في الحرب، خصوصاً ألمانيا، التي اُحتلت رسمياً بين عامي 1945 و 1955، حيث تواجد على أراضيها ملايين الجنود من قوات الحلفاء (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، الإتحاد السوفياتي)، وقسمت البلاد وفقاً لسيطرة كل طرف.
رغم ان احتلال الحلفاء لا سيما أمريكا لألمانيا انتهى رسمياً عام 1954، غير أنه استبدل باتفاقية “وجود القوات الأجنبية في جمهورية ألمانيا الاتحادية”، التي سمحت لثماني دول من أعضاء الناتو بالتواجد العسكري الدائم في المانيا، وبقيت هذه الإتفاقية سارية، حتى بعد توحيد البلاد بسقوط جدار برلين عام 1989.
وأنهت مفاعيل الحرب العالمية الثانية، بإحتلال ألمانيا والإبقاء على تواجد عسكري دائم فيها، نزاعاً أوروبياً يمتد إلى قرون خلت، منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية بحلول عام 476 م، وما تلاها من نزاع بين الممالك الأوروبية، والتي أدت إلى ظهور ملوك أقوياء كشارلمان، وفي مراحل لاحقة أدى الإعلان الرسمي عن انهيار “الإمبراطورية الرومانية المقدسة” عام 1806، إلى ظهور المستشار النمساوي بسمارك ونابليون بونابارت.
هذا التاريخ الطويل من الصراع حسم في أوروبا عام 1945، بإحتلال ألمانيا، وبمساعدة من اللاعب الجديد على الساحة الدولية (الولايات المتحدة)، التي ورثت المفاهيم الأوروبية بالسلطة والحكم والإستعمار، وبدأت من حيث انتهى الآخرون، وكانت أوروبا المسرح الأول للإدارة الأميركية، فسعت إلى منع قيام دول أوروبية قوية، تهدد إمبراطوريتها الناشئة، قبل أن تمتد يدها إلى باقي العالم، وتخرب فيه، كما يحدث في الشرق الأوسط وشرق آسيا.
وحتى اليوم، يوجد في ألمانيا 21 قاعدة عسكرية أمريكية، ويبلغ عديد قواتها نحو 50 ألفاً، مع احتساب اعداد الموظفين المدنيين في تلك القواعد. كما يوجد في ألمانيا 5 من 7 حاميات أميركية في أوروبا (الاثنان الآخران في بلجيكا وإيطاليا)، ومن أهم القواعد الأمريكية:
قاعدة رامشتاين الجوية: أكبر قاعدة عسكرية أمريكية خارج أراضي الولايات المتحدة، وتعد القاعدة المركزية لحلف الناتو.
قاعدة شتوتغارت: تعد مقر قوات “أفريكوم” التي تدير العمليات العسكرية الأمريكية في أفريقيا، والقيادة الأمريكية الأوروبية المكلفة بقيادة (51) من القواعد والوحدات العسكرية في الدول الأوروبية.
وتُساهِم القواعد العسكرية الأمريكية في ألمانيا في فرض نفوذ الولايات المتحدة في البلاد وعلى مستوى العالم، وفي ظل ما يسمى “الالتزام الأمريكي بحماية الأمن والاستقرار في أوروبا”.
وتخزن الولايات المتحدة نحو 20 قنبلة نووية، من طراز “B-61” في قاعدة بوشل الجوية. والجدير بالذكر أن البرلمان الألماني “البوندستاغ” قد أقر في آذار / مارس 2010، قراراً يحث الحكومة على العمل من أجل حمل الأمريكيين على سحب جميع الأسلحة النووية من بلادهم، لكن هذا القرار لم ينفذ، وما يجري اليوم هو تحديث تلك القنابل النووية، خصوصاً في ظل تطورات الوضع في أوكرانيا، بعد ضم القرم إلى موسكو عام 2014.
وأعادت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما رافقها من إعادة تشكيل الحدود الأوروبية، بعد ضم موسكو للمناطق الأربع (لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون)، بالإضافة إلى القرم، الحديث عن الأمن الأوروبي.. هذا الأمن الذي ارتهن للولايات المتحدة منذ 78 عاماً، وارتهنت معه القرارات السياسية، فظهرت أوروبا في العديد من الأحداث المعاصرة، كتابع للولايات المتحدة، وهذا ما يظهر جلياً في الأزمة الأوكرانية.
منذ العملية العسكرية الروسية، لم نشهد أي تحرك أووربي منفصل عن الإرادة الأميركية، ولم تخرج القرارات الأوروبية بدعم نظام كييف عن رغبة واشنطن، إن كان بنوعية الدعم العسكري، أو الكمية، في حين أن العقوبات الإقتصادية على موسكو، أدت إلى رفع أسعار الطاقة في أوروبا، وتضرر المواطن الأوروبي بالدرجة الأولى، في حين أن الولايات المتحدة تبيع أوروبا الغاز بأضعاف سعره، بحسب ما أكد وزير الإقتصاد الألماني.
فيديو | برلين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية
وتسعى الدول الأوروبية إلى تأمين مصادر أخرى للنفط والغاز، لكن محاولاتها لم تحقق النتائج المرجوة، وسط انكفاء أميركي عن السعي إلى حل تلك المعضلة، وترك الأوروبيين يتحملون تبعات الحرب، التي تسببت بها بالدرجة الأولى، السياسيات الأميركية حيال روسيا، بمعنى آخر، أن الولايات المتحدة تتدخل في تسعير نار الحرب، ولا تحرك ساكناً في معالجة تبعاتها، ومن يدفع الثمن هو المواطن الأوروبي.
وبالنسبة إلى ألمانيا، فقد برزت في الأيام الماضية، قضية دعم ألمانيا لنظام كييف بدبابات “ليوبارد” القتالية، وهذا أمر يتردد بالموافقة على إقراره المستشار الألماني أولاف شولتس، الذي أعلن أنه بصدد إجراء إصلاحات في الجيش الألماني، الذي يستخدم معدات قديمة، بسبب القيود المفروضة على البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. ولهذا السبب تم تعيين وزير دفاع جديد هو “بوريس بيستوريوس”، بدلاً لـ “كريستين لامبرخت” التي استقالت بعد فشلها في القيام بعملية التحديث المنشودة.
وعقد وزراء دفاع دول حلف الناتو اجتماعاً في قاعدة “رامشتاين” الأميركية في ألمانيا، وهي أكبر قاعدة خارج أراضي الولايات المتحدة، لمناقشة مسألة الدعم العسكري الألماني لكييف، فهل تنجح الضغوط في اغراق ألمانيا أكثر فأكثر في الحرب الأوكرانية، وبالتالي المزيد من اضعافها، وتراجع دورها على الساحة الاوروبية والعالمية؟
المصدر: موقع المنار